ثمة معضلة متأصلة فينا، نحن اللبنانيين، هي أن كوارث الحروب والانهيارات واستحالة تمكننا من إقامة الدولة الحامية للإنسان والمواطن والمجتمع، عجزت هي الأخرى عن جعلنا “نتواضع” في الاعتراف بأن عدم الإدراك والفهم والتقدير الفوري لتطوّرات بحجم حرب مخيفة ليس عيباً بل هو المنطق بعينه قبل جلاء الغبار. قبل أن نستفيق من موجات الاجتياح الجوي الأوسع الذي شرعت فيه إسرائيل يوم الاثنين الموافق 23 أيلول 2024 (وإثبات التاريخ ضروري لأنها بداية “حرب لبنان الثالثة” بلا أيّ جدل) بدا معظم “النخب” اللبنانية المجتاحة للشاشات بإزاء الاجتياح الإسرائيلي، كأنها تجادل وتبحث في جنس الملائكة وتوصيف الحدث الحربي كل من زاويته واستباق ما يستحيل استباقه من نهايات فيما نحن في البدايات.

ولعل ما يملي إثارة القلق الإضافي، الى جانب الذعر المعمّم جراء اشتعال الحرب التي لم يكن معظم اللبنانيين يصدقون أنها واقعة، هو أن الأخطر في اليوم الأول منها لم يأخذ الصدارة كما يجب وبدأ القفز فوراً فوق الانطلاقة المشتعلة لرسم سيناريوات عقيمة تنضح بالتسرّع والتفاخر السخيف بادعاء التبصير.

نقول ذلك لأن أخطر الأخطر فعلاً، قبل الغوص العقيم مسبقاً في ميزان النتائج الاستراتيجية لحرب بدأت لتوّها، هو أن الحرب الثالثة الإسرائيلية على لبنان وفي لبنان وعبر لبنان، التي تجمع هذه الأبعاد كافة وأكثر، كانت “وجبتها” الأولى نحو 500 شهيد و2000 جريح وعشرات ألوف النازحين، فقط لا غير… لا نظن أن أي دلالة أخطر من تعميم نموذج غزة على لبنان كانت لتكون أقوى وأشرس من هذه الحصيلة، التي وإن وصفت بأنها الأكبر منذ نهاية الحرب الأهلية، فإن هذا المقياس يتضاءل في أهميته أمام حقيقة موازية هي أن حرب غزة بذاتها ومجازرها المتعاقبة تكاد تتراجع أمام حصيلة يوم واحد في اول أيام “الحرب الثالثة” في لبنان. المعنى في ذلك لا يحتاج الى كثير تفسير بل الى فائض فهم، إذ إن إسرائيل لم تعد تقيم بالاً أو اعتباراً لحرب على المدنيين والمواطنين في طريقها وطموحها وخطتها لتصفية أقصى ما يمكنها من قدرات “حزب الله” البشرية وترسانته وحتى ناسه وجمهوره ومعهم جميعاً سائر اللبنانيين، تماماً على طراز غزة.

بطبيعة الحال فإن مساءلة “حزب الله” حيال إمعانه في المكابرة والتفرد بقرار الحرب والسلم وممارسة ذروة سياسات الغطرسة السياسية التي أوصلت لبنان الى مواجهة كارثية مع أعتى طاقم يميني إسرائيلي يسكر على الدم، هذا الجانب الداخلي هو الذي يبقى العنوان الآخر الأشد فداحة في ما أصاب البلاد منذ سنة. ولكن هذا الجانب على جسامته لا يبرر إطلاقاً عدم اتفاق اللبنانيين أيضاً، إن لم نقل إجماعهم المستحيل، على أن الموجات الطالعة من الحرب الإسرائيلية كانت وجهتها المواطن اللبناني أياً يكن في عقر داره ومدينته وبلدته وقريته، بزعم أنه واجهة صواريخ وترسانة ومقاتلي “حزب الله”. وحتى مع صحة أن الغارات تستهدف أكثر ما تستهدف بيئة الحزب ومناطقه فأن تنبري إسرائيل الى “تصفية” الناس بمعدل 500 شهيد يومياً، هو واقعياً مبعث الصدمة الأشد إرعاباً من أيّ تطور.

كنا نقيم على اعتقاد بأن لبنان جمهورية ودولة قائمة بذاتها بما يميّزه عن غزة المتروكة لدمها… رعب هذا الخطأ كان أسرع من أن نتداركه بدليل زحف الدماء والنازحين وعودة لبنان الى أسوأ كوابيسه!

النهار العربي