كلّ ما هدد به قادة إسرائيل لبنان، طوال “عام غزّة”، ينفّذونه الآن ساعين الى “غزّة ثانية”، وكما فشلت الولايات المتحدة (أو أفشلت نفسها) في خفض مستوى الوحشية الإسرائيلية هناك، فإنها تفشل أيضاً في فرض ضوابط على استخدام أسلحتها للتدمير الشامل هنا، أي في لبنان.

واشنطن والعواصم الغربية تتأرجّح بين رغبة علنية في وقف إطلاق النار، وقبول ضمني بما تحققه إسرائيل ضد الذراع الأساسية الأقوى لإيران، بل إنه قبول معلن عبّرت عنه الإدارة الأميركية بإدراجها اغتيالات قادة “حزب إيران/ حزب الله” في سياق “العدالة” والثأر لقتلاها من جنود المارينز (1983)، على رغم أن “العدالة” مصطلحٌ ملغى في قاموس السياسات الخارجية للولايات المتحدة، وبالأخصّ عندما يتعلّق الأمر بمحاسبة إسرائيل على جرائمها.

الأهداف القصوى التي حدّدتها إسرائيل لوقف إطلاق النار (ابعاد “حزب الله” الى شمال نهر الليطاني، ونزع سلاحه، والتنفيذ “الكامل” للقرارات الدولية)، كما وردت في رسائل وزير خارجيتها الى 25 دولة حليفة أو صديقة لإسرائيل، تعذّر تحقيقها بالديبلوماسية (عبر الأميركيين والفرنسيين) لذا فهي تحاول الآن انجازها في الميدان، وبتهجير المدنيين وتدمير ممتلكاتهم، وبتعريض لبنان لخطر الانهيار. ”

حزب إيران” اللبناني، كما “حماس”، لا يلتفت إلى الخسائر البشرية والعمرانية، بل إلى قدراته العسكرية وإمكان استمراره في استخدامها، وإذا استجاب لمساعي وقف النار فإنه يفعل ذلك بشروطه وعلى أساس عودته- كما لو أن شيئاً لم يتغيّر- إلى “القدرة والسيطرة”، ليس فقط في مواجهة العدو الإسرائيلي، بل خصوصاً في مواجهة الداخل اللبناني.

لكن ما تغيّر فعلاً كثير، وكثير جداً. فخلال أسبوعين أصبح “الحزب” فعلياً في مكان، كما أصبحت كلّ وعوده وتأكيداته وضماناته لبيئته الحاضنة، وحتى للبنانيين جميعاً، في مكان آخر تماماً.

كان “البيان الثلاثي” (نبيه برّي ونجيب ميقاتي ووليد جنبلاط) محاولة لترتيب خروج من المأزق بـ “إخراج” لبناني داخلي. وإذ “طلب” البيان وقفاً للنار وإرسال الجيش إلى الجنوب وتطبيق القرار الدولي 1701، كان السؤال: مَن يطلب ممن؟ أمِن “حزب إيران” أم من واشنطن وباريس أم من إسرائيل؟

وإذا كان هذا الطلب من الحكومة اللبنانية فلماذا لم تجتمع وتقرر إعلان وقف النار وإرسال الجيش؟ الواقع أنه كان مجرد بيان مبني على موافقة “افتراضية” من “الحزب” ولم يعد هناك في “الحزب” مَن يستطيع تأكيدها.

لذا سارعت طهران بإرسال وزير خارجيتها إلى بيروت، ليس فقط لإحباط المحاولة “الثلاثية” برفض وقف النار وإبقاء الكلمة للميدان تحت شعار “استمرار المقاومة”، بل خصوصاً لمخاطبة واشنطن وغيرها بأن قرار لبنان أصبح الآن “رسمياً”، وبلا أي مواربة، في إيران.

ما كان يقال مجازاً في لبنان أصبح الآن أمراً واقعاً، فالحرب هي بين إيران (ومعها ميليشياتها) وإسرائيل (ومعها أميركا والغرب)، أما لبنان فليس سوى ساحة وميدان.

وفي طيات المهمة التي جاء بها عباس عراقجي رسالة مزدوجة إلى من يهمه الأمر: إبقاء المواجهة في هذا الحيّز، ودعوة إلى التفاوض مع إيران في شأن لبنان وسوريا وغيرهما. لكن وسائل الاعلام الغربية تنقل عن مسؤولين أميركيين أن واشنطن لا تعرف مَن صاحب القرار في لبنان، وأنها حاولت وربما نجحت في إقناع إسرائيل بتقليص الأهداف الاستراتيجية في ردّها على صواريخ إيران، مقابل عدم تقييد استهدافاتها داخل لبنان.

النهار العربي