كانت حلم السفر لدى كل عربي ومسلم، نسمع من زارها واستأنس بأرضها الطيبة قبل ظهور الأقمار الصناعية وأخبارها عبر القنوات الفضائية. في ذكرها تطرب النّفوس وتتوق أرواحنا لرؤيتها عن قرب، وقلبي “أنا” تعلّق بهواها أيام الطفولة وخيال البراءة، موطن النبي الحبيب محمد (ص) ومهد الرسالة المحمدية الأولى. المهم وقبله الأهم بعد ثورات الربيع العربي التي انطلقت أواخر 2010وأوائل 2011بات الحديث عن المملكة العربية السعودية مختلفاً لأنّ المنطقة العربية تمر بمنعطفات كبيرة حيال الثورات الشعبيّة، ولأنّ السياسة صارت الخط الفاصل بين الشعوب، فمن ناصر ثوراتهم لا يستوي مع من خذلهم أو مع من حمل ذيل ثوب السلطة والسلطان وآثره على قضايا الشعوب.
شهدت المملكة العربية السعودية تغيرات جذرية منذ تولي محمد بن سلمان ولياً للعهد في 21 يونيو/حزيران 2017 أي بعد عزل محمد بن نايف، وولاية العهد ليست المنصب الوحيد الذي يشغله ابن سلمان، هناك ” رئاسة مجلس مكافحة الفساد ووزارة الدفاع… ” الأمر الذي مكّنه من الاستفراد بالقرار السياسي والاقتصادي والأمني والعسكري. لم تكن الأمور على ما يرام داخل الأسرة الحاكمة، فمنذ الساعات الأولى من تولية محمد بن سلمان منصب ولي العهد اعتقلت السلطات السعودية أكثر من 40أميراً منهم شغل منصب وزير ومنهم رجل أعمال بتهم الفساد المالي وغسيل الأموال.

أسرة آل سعود إلى أين؟
في مارس/أذار 2019 أدانت 36 دولة في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة انتهاكات سلطات المملكة بحق نشطاء سعوديين، وطالبت بالإفراج عنهم وعن جميع معتقلي الرأي، هنا يتساءل كل من يهمه الأمر أنّه خلال مدّة يسيرة من استلام محمد بن سلمان ولاية العهد راحت المملكة تتجه نحو “المجهول” بعيداً عن القراءات المستقبلية واستشرافات المحللين، فمع بداية 2017 حتى 2021 والسعودية تفاجئنا بما هو جديد أو على الأصح بما هو مثيرٌ للجدل، من انقلاب على الأعمام وأبناء العمومة إلى اعتقال العلماء والدعاة المؤثرين والنّشطاء السياسيين والحقوقيين، وكذلك استبدال هيئة الأمر بالمعروف بالهيئة العامة للترفيه، إلى رؤية 2030 التي جاءت في غير صالح المواطن لأنّ فكرتها تنويع الإيرادات الاقتصادية مقابل رفع مستوى الضرائب، وصولاً إلى تقزيم الدور السعودي الخارجي المؤثر في ملفات المنطقة خصوصاً بعد دخول اليمن في مارس/ أذار 2015 حيث تحمّلت السعودية نتائج قراراتها السياسية ” .. فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون..” فالجارة الشريكة “الإمارات” لا عهد لها فكيف يهزم الحوثي المدعوم من إيران؟! لكن الضرر الذي أثّر على سمعة السعودية هو حادثة اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي تاريخ 2018.
في 22 أكتوبر/2021 خصصت وزارة الشؤون الإسلامية السعودية خطبة الجمعة لمهاجمة ما يعرف بالتيار السروري الذي تعتبره “الرياض” منبعاً للإرهاب، وَحَسب ما قال وزير الشؤون الإسلامية عبد اللطيف آل شيخ في كلمة وجّهها لخطباء الجمعة ” أنّ هذا التنظيم “السروري” يسعى إلى نشر الفساد في بلاد المسلمين ويعمل على بث الفرقة ونشر الحروب بينهم، وهو وجه من وجوه الإخوان المسلمين “. مؤسف ما يجري في السعودية وهو لا يخفى على أحد، لا سيما وأنّها (السعودية) تتجه نحو الحداثة والانفتاح اللامحدود في ظل سياسةٍ خرقاء لا تدرك المآل الحقيقي الذي ينتظرها. وبالعودة إلى ما حذّرت منه السعودية “التيار السروري” ولِماذا تخشى منه؟

إنّ فكرة هذا التيار ليست جديدة في السعودية فهي وليدة السبعينات والثمانينيات وبشكل عملي في التسعينات أي في فترة حرب الخليج الثانية 1991، وكان لهذا التيار انتشارٌ واسع حيث جمع في صفوفه العديد من العلماء والدعاة. عُرِف هؤلاء الدعاة وقتها “بالصحوة” ومن رموزهم المحسوبين على التيار (سلمان العودة، سفر الحوالي مؤلف كتاب “وعد كيسنجر والأهداف الأمريكية في الخليج”، ناصر العمر… وإبراهيم السكران مؤلف كتاب “الماجريات” وغيرهم) كانت لمؤلفاتهم الأثر الواضح في كسب القاعدة الشعبية اتجاههم، لأنّ فحواها السياسي يركّز على قضايا الأمّة والمنطقة العربية ككل، لهذا اعتقل من اعتقل حينذاك ومازال ليومنا يقبع في السجن، وهناك من أُفرِج عنه قبل عام مقابل توقيعه ضمانات أقلّها الحياد. الفكر السروري وأصل تسميته كما روّجت له وسائل الإعلام والصحف “تحذيراً” ينسب إلى الشيخ السوري “محمد سرور زين العابدين” مؤلف أول كتاب عن خطر الغزو الإيراني “وجاء دور المجوس”. تعلّم الشيخ سرور من فكر الدكتور مصطفى السباعي والشيخ عصام العطار أيام شبابه عندما كان في صفوف الجماعة، لكن مع وصول حزب البعث إلى سدة الحكم عام 1963 تعرّضت الجماعة لحملة قمع شديدة مما اضطرَ قادتها وجلّ أعضائها لمغادرة البلاد ومن بينهم الشيخ محمد سرور، حيث دخل الأراضي السعودية عام 1965 وفيها بدأت رحلة السرور التي يهاجمها ابن سلمان. من يقرأ عن فكرة التيار السروري يجد ما يثير السرور فعلاً وليس من باب التهكم أو التّرويج، التيار وجد في السعودية أرضاً خصبة للنمو والازدهار لأنّه فكر يجمع الجانب الحركي “الإخوان” مع المضمون السلفي “العقدي” فكان الأمر أشبه بالسلفية الحركيّة التي لا تقتصر على العبادات فقط، وأنّ شؤون الدولة والحكم تهم العامّة كما الأسرة الحاكمة، فالمواطن جزء لا يتجزأ من الدولة، وعليه يكون العمل بالدعوة والإرشاد ليس مختزلاً على كيفية الصلاة والصوم وإلى ما هنالك.

ختاماً:
أدرك أعداء المملكة العربية السعودية أنّ السبيل الوحيد في السيطرة على الهوية الإسلامية في أرض الحرمين هو تفكيك أسرة آل سعود أولاً _ تأليب بعضهم على بعض _ الأسرة المناضلة التي يعود لها الفضل في تأسيس الدولة بكل مراحلها، لذلك يحرصون على انتقاء شخصية ضعيفة تستجيب لهم بطريقة ما، استطاعت تهميش الصف الأول أبناء عبد العزيز آل سعود “الأعمام” اعتقالاً ونفياً وتحييداً، فالتاريخ لا ينسى مواقف الملك الثالث فيصل بن عبد العزيز آل سعود المشرفة، السياسي الداهية صاحب القرارات المؤثرة وأهمها قرار حظر تصدير النفط للدول الداعمة لإسرائيل، الأمر الذي دفع حياته ثمناً لشجاعته التي لم تكرر. في نهاية الأمر المملكة العربية السعودية ستبقى قبلة المسلمين شاء من شاء وأبى من أبى، وليعلم أصحاب القرار فيها أنّ الأرض ليست لهم بقدر الإساءة لها ولأبنائها، ومن يفرط بهوية الدولة التي لولاها لما نشأت فمآله السقوط، أمّا التيارات الفكرية لن تتوقف عند السرورية فحسب، إنّما ستولد على أسرّة السرورية أجنّةً تكسر اللوح الجليدي ويكون لها اسمٌ جديد، نكتب عنهم في المدى القريب.