مغامرة الاشتباك الحالي الذي بادر إليه حزب الله مع العدو الاسرائيلي على الحدود الجنوبية، هي، في حدودها الراهنة، خطوة محسوبة بدقة ومنشودة بحكمة، يمكن للبنان ان يحتملها وان يتعايش معها، طالما اقتضى الأمر، لأنها تمنع تصنيف اللبنانيين كشهود زور على حرب الابادة التي يشنها الاسرائيليون على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية أيضاً، وتسهم بتواضع، حتى الآن على الاقل في إبطاء وتيرة تلك الحرب المتجهة نحو تغيير سياسي وديموغرافي جذري في مستقبل المشرق العربي.

الاشتباك في شكله المعتمد منذ بدء طوفان الاقصى، يحقق قدراً من التوازن بين حدّين قاتلين: أن يلزم الحزب ومعه أغلب اللبنانيين الصمت إزاء ما تتعرض له فلسطين وشعبها، والذي ينذر فعلا بنكبة ثانية، ستصيب هذه المرة ايضا لبنان، بعد مصر والاردن طبعا..أو يخرج الحزب الى حرب واسعة النطاق، تكون أقرب الى يوم القيامة الذي تختتم به عذابات الشعب اللبناني وتعيده عند العصر الحجري، حسب التعبير المحبب من قبل المسؤولين الاسرائيليين، بحيث تبدو معه حرب تموز/ يوليو 2006، وكأنها كانت مجرد نزهة.

وعلى الهامش، لا مفر من التكرار أن غالبية اللبنانيين، كانت تتمنى ان يكون هذا الاشتباك المدروس والمتقن، والمجدي حتى الآن، على الجبهة السورية، أو على الاقل على الجبهتين السورية واللبنانية، اللتين ينتشر فيهما الحزب. لكنها أمنية قديمة جداً، سبق أن أصابت بالخيبة واليأس مختلف المقاومات اللبنانية التي حملت السلاح في وجه العدو منذ ستينات القرن الماضي وحتى اليوم.

اليوم، قرر الحزب كما يبدو ان يكتفي بالجبهة اللبنانية، بعد محاولات اختراق محدودة لسكون الجبهة السورية، وهو ما لا يستدعي العتب او اللوم، بل مجرد الاستفهام. فالحرب الاسرائيلية الضارية على الشعب الفلسطيني في غزة والضفة، لا تسمح بمثل هذا الجدل.. ولا تبيح الطعن في إسهام الحزب المتواضع بالدفاع عن الفلسطينيين، بإعتباره ترجمة لمشروع إيراني، ليس له مكان لا في غزة ولا في الضفة، حيث يتقدم القرار الوطني الفلسطيني المستقل على كل ما عداه من قرارات او تحالفات.

حتى اليوم، ما زال يمكن القول أن إشتباك الحزب المدروس مع العدو، يحسم بعدم رغبته في فتح الجبهة الجنوبية على مصراعيها، وخوض حرب جديدة، لا سيما بعدما تولى الاميركيون حراسة شرق البحر المتوسط، وحلقت طائراتهم الحربية في سماء لبنان، وبيروت تحديداً، أكثر من مرة في الايام الماضية، وبعدما باتت المياه الاقليمية اللبنانية مرتعاً لحاملتي طائرات أميركيتين تقودان أسطولاً حربياً أطلسياً، يعيد الى الاذهان صور بوارج المستعمرين الاوروبيين الاوائل في القرن التاسع عشر، التي حسمت معارك السيطرة على المشرق العربي.

ولا يبدو ان قرار الحزب مؤقت، أو خاضع لايقاعات الحرب المتسارعة على غزة والضفة. هو مبني على إعتبارات داخلية لا يمكن التنكر، منها ان لبنان يمكن فعلا ان يتحول بسهولة الى كبش فداء لتلك الحرب، من دون أن يحصد سوى الخراب والدمار، ومن دون ان يتمكن من رد الصاع بصواريخ تفقد يوماً بعد يوم قدرتها على التأثير في موازين القوى، ومن دون ان يتمكن من خدمة معركة المقاومة الفلسطينية الحرجة، التي لا تقبل الصمت ، مثلما لا تقبل التفريط بحليف لبناني موثوق، او حتى بملاذٍ آمنٍ يمكن ان تضطر للجوء اليه مستقبلاً.

الاشتباك الراهن مع العدو دليل حنكة وحكمة من الحزب، يجبر الجيش الاسرائيلي على تخصيص بعض قواته للجبهة الشمالية، ويفرض على الاميركيين والاوروبيين الانتشار البحري الاكبر من نوعه في شرق المتوسط منذ قرنين..لكنه في المقابل، يضع العدو وذلك الحشد العسكري الاميركي والاوروبي على شفير حرب لا مفر منها، ويمكن ان يصبح شنها على الحزب وعلى لبنان، أكثر من رحلة في الزمن الغابر. عندها سيقال للحزب كلام آخر تماماً.

المدن