غداة الانقلاب العسكري في السودان لم يتأخّر الفريق عبد الفتاح البرهان وأعضاء فريقه، بمن فيهم صاحب النفوذ محمد حمدان دقلو (حميدتي)، في ادراك أنهم لن يتمكّنوا من متابعة طريقهم. ليست للانقلاب حاضنة شعبية حقيقية، فلا الحركات المسلحة التي جاءت بأنصارها من دارفور ولا القبائل التي استُحضرت من بعض المناطق، استطاعت أن تشكّل رافعة لعودة الحكم العسكري. وليس للانقلاب “مشروع مدني” مقنع داخلياً وخارجياً بحيث يمكن للجنرالات أن يأتوا بـ “حكومة كفاءات مدنية مستقلة” قادرة على متابعة خطط حكومة عبدالله حمدوك لإصلاح الاقتصاد اعتماداً على المؤسسات المالية الدولية. والأهم، أن الانقلابيين تبيّنوا أن الجهات الخارجية التي تساندهم، أيّاً تكن أهدافها، لا يمكنها إنجاح حركتهم عن بُعد ما لم تكن بدائلهم موجودة وفاعلة عن قرب. وحتى الالتباس في الموقف الأميركي ما لبث أن تبدّد بما أعلنه الرئيس جو بايدن وقبله وزير خارجيته ومبعوثه الخاص الذي اتهم البرهان بخداعه.
بدت الظروف الداخلية والخارجية وستبقى غير مؤاتية لترك الانقلاب يأخذ مجراه، كما أن مظاهر التماسك التي أبداها الجنرالات طوال العامين الماضيين حتى الآن لم تنفِ سعي “حميدتي” مثلاً الى فتح قنوات خارجية خاصة به ولا يشك عارفوه بأنه يطمح الى رئاسة البلاد، على رغم أن ثمة ملفات تتعلّق بسلوكه في دارفور وقد تُستخرج من الأدراج لاستبعاده. لكن عقدة العسكريين تكمن في أن نظامهم لن يكون في أي حال بقوة نظام عمر البشير قبيل تضامنهم لإسقاطه. وإذ أوحى مسارهم بعد ذلك بأنهم استوعبوا درساً استمر ثلاثة عقود ودفع السودان والسودانيون ثمنه غالياً، إلا أنهم اعتبروا أن اطاحة البشير تمنحهم “حقّاً” مكتسباً دائماً في تسيّد السلطة بأي صيغة يمكن التوصّل إليها، بالتوافق أولاً على وثيقة دستورية وببثّ الفرقة بين خصومهم المدنيين ثانياً، وباعتقال هؤلاء الخصوم وإلغاء المواثيق الموقّعة معهم ثالثاً. قال الفريق البرهان أن تحرك الجيش (لا يسمّيه انقلاباً) جاء لتصحيح “المسار الانتقالي”، لكن مأزقه يضطرّه الآن للبحث عن تسويةٍ ما مع المدنيين لتصحيح مسار الانقلاب.
على مضض، أخرج العسكريون حمدوك من الاعتقال الى الإقامة الجبرية، بعدما ضغطت واشنطن وطلبت من دول عربية التوسط للإفراج عنه. وعلى الأثر بدأت الاتصالات لبلورة سيناريو يتمحور حول عودة حمدوك رئيساً لحكومة جديدة. هناك قبول عام للرجل في السودان، لكن ليس الى حدّ أن يعقد أي صفقة مع العسكريين، فالثقة بينه وبينهم انعدمت ثم أنه كان قَبِل منصبه على أساس أن هناك توافقاً على مرحلة انتقالية تنتهي بالانتخابات وعودة العسكر الى الثكن ليصبحوا دستورياً تحت امرة سلطة تنفيذية ورقابة سلطة تشريعية، وهي هذه العودة عقدة العقَد. لا يستطيع حمدوك أن يتنكّر للمدنيين ولـ “الثورة” أو أن يكون واجهة لتسوية تبقي الحكم المدني أسيرة سلطة عسكرية تطيحه في أي وقت، أو أن يكون رئيس حكومة تكنوقراطية من دون أي سند دستوري بعدما ألغى الانقلابيون “الوثيقة”. أيُّ رئيس حكومة آخر سيكون خيار العسكريين وسيصعب عليه إثبات صدقيّته داخلياً وخارجياً. إذاً، ستكون لحمدوك شروط ليعود متمتّعاً بالقبول نفسه وضامناً رزمة استحقاقات جوهرية لاستعادة مسار الانتقال السياسي.
أهم هذه الاستحقاقات تشكيل المجلس التشريعي الانتقالي والمحكمة الدستورية وما يفترض أن يرافقهما من إجراءات كتعيين رئيسين للقضاء وللجنة الاشراف على انتخابات 2023. كلٌّ من هذه الخطوات دونها صعوبات وتعقيدات لكنها ممكنة، فإنجازها ينصف القوى المدنية ويقدّم لها بديلاً من تنافسها على الحقائب الوزارية، إذ يتيح لها المجلس التشريعي صوتاً مسموعاً وطلبَ الاطلاع على مختلف القطاعات بما فيها العسكرية، والأهم أن هذا المجلس سيُخرج السلطة التشريعية من أيدي العسكر. لا يقلّ أهمية أيضاً أن يكون للحكومة التكنوقراطية المستقلّة عن الأحزاب دور حقيقي في كل ما يتعلّق بالدولة، بدل أن تستمرّ الحال كما كانت قبل الانقلاب حين كان العسكريون يعملون كحكومة موازية تتخذ مبادرات خارجية وقرارات داخلية من دون التفاهم أو حتى التنسيق مع الحكومة المدنية في شأنها، وكان لافتاً مثلاً أن زيارات حمدوك اقتصرت على عواصم غربية وافريقية، فيما كان الجنرالات يزورون العواصم العربية.
غير أن الاستحقاق الأهم يتعلّق بالجيش، وعنوانه المكتوب إعادة الهيكلة، أما غير المكتوب فهو أن يدخل العسكريون في مراجعة شاملة لسلوكهم ولإدمانهم السلطة منذ استقلال السودان حتى اليوم، أقلّه لمواكبة التغيير الذي لمسوه في أداء القوى المدنية وأجيالها الجديدة. إذ أن تجربتهم، قبل البشير ومعه، أشعلت حروباً أفضت الى تقسيم السودان ورسّخت أنماط فساد وتسلّط حالت دون بناء دولة مؤسسات واقتصاد مستقرّ، لذلك جاءت الثورة الشعبية وسلميّتها بتصميم شبابي على تغيير يقطع مع كل سلوكات الحكم التي عرفتها البلاد.
فالظاهرة التي لا تسلّط الأضواء الاعلامية عليها هي أن قيادات الشارع من الشباب عادت مرّة أخرى، كما في كانون الأول (ديسمبر) 2018، الى تخطّي القوى المدنية المعروفة، ومنها الأحزاب و”تحالف الحرية والتغيير” و”تجمع المهنيين” التي لعبت وتلعب الآن دور المساندة. وقد برهن شباب الشارع التصاقاً بقواعدهم وقدرةً على استعادة زمام المبادرة، بالإضافة الى امتلاكهم “جدول تصعيد” واستراتيجية مشاغلة وإرهاق لقوى السلطة برزت في تظاهرات 21 أكتوبر ثم 30 أكتوبر، وسيواصلون تحركهم وصولاً الى 17 نوفمبر المتعارف عليه كموعد مفترض لتسليم العسكريين رئاسة المجلس السيادي الى شخصية مدنية.
عملياً، تجاوزت قيادات الشباب هذا الموعد لكنها ستستغلّ رمزيّته، وباتت بوصلتها موجّهة الى الاستحقاقَين المحوريين للصراع الحالي (المجلس التشريعي الانتقالي، ومن بعده الانتخابات). افتقد العسكريون، بعد انقلابهم، الحاضنة الإسلامية التي أطاحوا رموزها، بدءاً بالبشير، ولا يستطيعون استعادتها. لكن بعضاً من حلفائهم يحاول وراثة زعامة الاسلاميين، لا سيما جبريل إبراهيم (زعيم حركة “العدل والمساواة” في دارفور) الذي تصدّر وهو وزير المال في حكومة حمدوك جبهة المطالبين بحلّ حكومته و”توسيع المشاركة” في الحكومة البديلة. لا يطالب إبراهيم بتعزيز الحصة التي نالتها الحركات المسلحة فعلاً (25 في المئة)، لكنه يدعو الى إشراك الإسلاميين على حساب الأحزاب المدنية. أما قيادات الشباب والأحزاب فلا ترى عودةً للإسلاميين إلا عبر مشاركتهم في الانتخابات.