فشل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في كسب الرهان على أنّ الناخبين الذين أعادوا تثبيته في قصر الإليزيه سوف يستكملون هذا النجاح، الذي كان «تاريخياً» ضمن اعتبارات كثيرة، بمنحه الأغلبية القصوى ذاتها التي كان يتمتع بها في الجمعية الوطنية السابقة. شخصية جوبيتر، اللقب الذي اشتُهر به نسبة إلى الإله الإغريقي كلّي القدرة والصلاحيات والهيمنة، تلقت صفعة صريحة؛ والمفردة هذه ترددت على ألسنة ملايين الفرنسيين من دون أن تنطوي على مهانة لمقام الرئاسة، إذْ أنها استقرت في القاموس السياسي/ الانتخابي منذ زمن طويل سبق صعود ماكرون أو أسلافه رؤساء فرنسا في الجمهورية الخامسة.
من جانب آخر، وكي لا يكون ماكرون غريب الوجه واليد والانتكاسة على نطاق الديمقراطيات الغربية، حقّق الرجل نتيجة يمكن أن تُعتبر انتصاراً تشريعياً في بلدان مثل ألمانيا أو إيطاليا أو إسبانيا أو هولندا أو الدانمرك، إذْ جاء حزبه في المرتبة الأولى بالقياس إلى الأحزاب والتكتلات الأخرى المنافسة؛ وطعم الهزيمة انحصر، منطقياً، في خسران الأغلبية المطلقة لصالح أغلبية نسبية أقرب إلى تكريس معضلة منها إلى اقتراح انفراج. بلدان أوروبية عديدة تُحكم على مبدأ التحالفات الجانبية من حول الحزب الأعلى نوّاباً في البرلمانات، بل يحدث أحياناً أن تنطوي تركيبة حاكمة على أحلاف مع «شياطين» شتى، في صفوف اليمين العنصري أو المتشدد أو حتى الفاشي.
خصوم ماكرون في جبهة اليسار لم يحققوا ما سعوا إليه من أحلام إيصال زعيم اتحادهم، جان – لوك ملنشون، إلى رئاسة الحكومة، وذلك رغم أنهم فازوا بمقاعد أكثر بالمقارنة مع أحجامهم السابقة فرادى وجماعات، وفرضوا على البرلمان تبديلات نوعية فارقة حقاً، كما في إيصال نائبة سمراء البشرة كانت في الأصل عاملة تنظيفات. ومن حيث الجوهر، ليس مؤكداً أن توافقاتهم التي توصلوا إليها قبيل الانتخابات (خلال زمن قصير قياسي، كما يتوجب القول) يمكن بالفعل أن تبقى على حالها من حيث الاتفاق والانسجام خلال الأسابيع والأشهر المقبلة. البرنامج كان في الأصل أقرب إلى توليفة صيغت على عجل، والقضايا الشائكة التي سوف تُطرح على الجمعية الوطنية ستضعهم أمام خيارات افتراق وليس روحية اتفاق، خاصة في مسائل مثل القدرة الشرائية والضريبة المباشرة وسنّ التقاعد؛ وكذلك لأنّ ماكرون ساجل وسوف يساجل بأنّ 58% من الفرنسيين إنما انتخبوه على قاعدة برامجه الإصلاحية تلك، وليس من الوفاء أن يخذل ناخبيه فلا يمضي قدماً إلى إقرارها.
الفائز الأوضح هو اليمين الفرنسي المتطرف بزعامة مارين لوبين، التي لم يحقق حزبها حلماً نادراً بتشكيل كتلة برلمانية مستقلة فحسب، بل نجح في حصد 89 نائباً في نقلة يجوز لها أن تُعتبر تاريخية: إنْ لم يكن بالمقارنة الصارخة مع أعداد الحزب في البرلمان السابق (8 نواب فقط)، فعلى الأقلّ في مستوى الاختراق الشعبي الهائل لأفكار اليمين المتطرف والعنصري والانعزالي والكاره للأجانب عموماً وللمسلمين خصوصاً. هنا تبدو «الصفعة» إياها وكأنها آتية من كفّ ماكرون نفسه، على نفسه؛ لأنه اشتغل، بدهاء وحنكة وخبث ومنهجية عالية، على ضرب يمين ديغولي جمهوري بيمين متشدد قوموي. ولقد استفاد من تيه إيديولوجي أصاب شرائح غير قليلة من أنصار ورجالات اليمينَيْن معاً، إلى أن انقلب السحر على الساحر في الانتخابات التشريعية: صعد اليمين الثاني، وتحجّم اليمين الأول، وأمّا مزاوجات ماكرون فقد بقيت حائرة تائهة متذبذبة، متوجهة أكثر فأكثر نحو انحيازات الموقع الوسطي الأردأ.
وقد لا تكون مبالغة أنّ صفة المأساة على صعيد الزعامات امتاز بها ماكرون، وأمّا الملهاة فيصحّ أنها ذهبت إلى ملنشون، وكان الخليط التراجيكوميدي حصّة لوبين؛ مع فارق أنّ الناخب الفرنسي ذاته لم يكن مجرّد مشاهد يتابع العرض من عتمة الصالة، بل هو ممثل مشارك وكاتب نصوص ومصفّق أو ممتعض و… دافع ثمن، في آن معاً.
القدس العربي
Be the first to write a comment.