عندما يبدو لبنان كأنه إستثناء في السياسة الخارجية السعودية، التي تسير هذه الايام في خط مستقيم نحو تسوية الخلافات القديمة مع أشد الأعداء وأعتى الخصوم، لا تكون القاعدة بالضرورة هي الصواب، ولا يكتسب الشأن اللبناني أهمية خاصة على لائحة أولويات المملكة، بل يحتفظ بترتيبه الخامس او حتى السادس على جدول أعمال المفاوضات الثنائية الوشيكة بين الرياض وطهران.
الاستثناء اللبناني، على تواضعه، هو الخيار الوحيد الذي يمكن إخراجه من سياق تلك السياسة السعودية المغامرة، التي تخوض منذ مدة مسعى جدياً لإعادة تعريف وتحديد “الوصاية الاميركية”، على أكثر من صعيد، مدفوعة بحوافز سياسية واقتصادية، تستبعد طبعا البُعد الايديولوجي، وتُبنى على تحولات جوهرية في العلاقة التاريخية بين المملكة وبين الولايات المتحدة، التي لم يعد النفط محركها الأقوى، ولا الإسلام محورها الاهم، بل المحتوى العسكري والأمني، وهو في تراجع مستمر، كشفته حرب اليمن، ورسخته حرب أوكرانيا.
على هذا التباعد السعودي الاميركي تشكلت في السنوات القليلة الماضية سياسات ثنائية، كانت تظهر في بعض الاحيان أنها إنفعالية، وإشكالية، وأحياناً انتقامية، من حوادث ومواقف وسلوكيات أغضبت واشنطن حيناً والرياض أحياناً، وفرضت ما يشبه القطيعة الدبلوماسية بين المؤسستين الحاكمتين، التي لم تكن تخطر في البال يوماً، طوال قرن مضى على العلاقات الوثيقة بين البلدين..حتى بدا ان السعودية تتصرف كدولة شيوعية في تعاملها مع اميركا، ولا تخشى ان يعاملها الاميركيون على هذا الأساس، بعدما باتت واثقة من عمق التحالف البديل الذي نسجته مع المارد الصيني المتكىء على الإرث الشيوعي.
في هذا السياق بالتحديد، رفضت المملكة نداءات اميركية متكررة للتكيف مع مجرى المفاوضات النووية مع إيران، ثم لتجنب اللجوء الى خفض انتاج النفط، في منظمة أوبك، الى أن قررت فجأة ومن دون سابق إنذار، التوجه مباشرة الى الصلح مع إيران، بناء لوساطة ورغبة صينية ملحة، في توقيت كان ولا يزال يثير الجدل، لا سيما في ضوء الغليان الداخلي في إيران الذي يتفاقم يوما بعد يوم، جراء العقوبات الاميركية والاوروبية المشددة، حيث يواجه النظام الايراني تحديات لم يسبق لها مثيل منذ قيامه قبل 44 عاماً ، سواء في علاقته مع شعبه، ونسائه خاصة، او مع حلفائه العرب، في اليمن والعراق وسوريا وحتى لبنان، الذين باتوا عبئاً ضاغطاً على السياسة كما على الخزينة الايرانية.
الجنوح الى الصلح مع إيران، الذي لم يعرف بعد ما الذي جنته السعودية منه، غير وقف حرب اليمن المتوقفة أصلاً، يُصنف كخطوة دبلوماسية في الاتجاه الصحيح، تخدم مصالح البلدين والعالمين العربي والاسلامي، لكنها لا تبدد الاستغراب من كونها اتخذت في اتجاه نظام لم يستبعد استمراره في القتال في الدول العربية الاربع، لكي يتفادى، حسب تعبيره القديم، القتال في طهران وأصفهان ومشهد وتبريز، وتزامنت مع الانهيار التام للمفاوضات النووية الايرانية الاميركية، والاشتباكات المتصاعدة التي أعقبتها على جبهات العراق وسوريا.
وبهذا المعنى، يكون الذهاب الى صلح سعودي مع نظام الرئيس السوري بشار الاسد، الذي لن يعرف ما الذي ستجنيه السعودية منه، ليس أكثر من هبة تقدمها المملكة الى طهران، التي إنحدر دورها في سوريا الى مستويات حرجة، ليس فقط نتيجة الضربات الاسرائيلية المتلاحقة، بل نتيجة الكلفة السورية التي باتت ثقيلة جداً على إيران وهي تفوق ما تخصصه من موارد وذخائر لحلفائها اللبنانيين واليمنيين والعراقيين مجتمعين.. ولم تعد قادرة على منافسة التقدم الذي حققته روسيا في بسط نفوذها العسكري والسياسي في سوريا.
تصنيف لبنان كإستثناء لا يثبت القاعدة، ولا يخدمها، بل يزيدها إلتباساً: عدم اعتماد خيار الصلح مع الحلفاء اللبنانيين لسوريا وايران، يمكن ان يعزى الى خصوصية الشأن اللبناني الداخلي بالنسبة الى المملكة التي لا تزال تلتزم بمواقف سابقة لمغامراتها الانفتاحية الاخيرة، وهي لذلك طبعا، وعلى سبيل المثال لا الحصر، لم ولن تقبل، كما يبدو، أن يختار الشيعة الرئيس المقبل للجمهورية، بخلاف رأي الغالبيتين الساحقتين، السنية والمسيحية..حتى ولو بلغت المصالحة مع طهران ودمشق إحتمال أن يضم الوفد الرسمي السوري الى القمة العربية في الرياض في 19 أيار/مايو المقبل، مندوبين عن حزب الله مثلاً !
الاستثناء اللبناني هامشي طبعاً، بالمقارنة مع بقية المغامرات الدبلوماسية السعودية، لكنه بالتأكيد أقلها إثارة للجدل أو الشك.
موقع المدن
Be the first to write a comment.