لم يعد ينقص موسم الاصطياف الحالي، سوى تنظيم رحلات سياحية إلى وجهة ترفيهية جديدة، هي مخيم عين الحلوة الفلسطيني، حيث يمكن للسائح اللبناني أو العربي أو حتى الأجنبي أن يتجول سيراً على الأقدام، وبرفقة دليل سياحي معتمد، في ذلك الحيز المغلق، الذي لا تزيد مساحته على ثلاثة كيلومترات مربعة، تعادل مساحة أي مدينة ملاهي وألعاب رعب، ليشاهد بأم العين آخر العروض الشيقة لمجموعات من خريجي معاهد الفنون القتالية، يخوضون الاشتباكات المسلحة بالذخيرة الحية داخل الأزقة الضيقة، وليسمع الاستغاثات والصرخات من النساء والاطفال والشيوخ الفارين من المعركة، ويتنقل وسط دخان الحرائق ليرى بالعين المجردة آثار الرصاص وقذائف المدفعية على جدران البيوت الصغيرة المتداعية، وعلى سيارات الإسعاف والإطفاء المتهالكة، قبل أن يعلن المُخرِج نهاية العرض الهوليودي الحيّ، ويدعو الضيوف إلى إستراحة على شاطىء البحر الصيداوي الهادىء.

يوماً ما ، لا مفر من التفكير الخلاق بمثل هذا البرنامج السياحي المثير، والذي يمكن أن يكون مريحاً ومربحاً، طالما أن العقل اللبناني والفلسطيني ما زال عاجزاً عن حل سياسي-أمني واجتماعي لمعضلة ذلك المخيم، الذي يمثل خلاصة انهيار الدولة اللبنانية وانحدار الفكرة الوطنية الفلسطينية، واستحالة التوصل إلى تفاهم بين المشروعين، اللذين راكما عقوداً من الصدام، ومن الذرائع المتبادلة بأن كل واحد منهما كان سبب سقوط الآخر ولجوئه المجرد إلى السلاح.
وما يحفز هذه الفكرة السياحية التي قد تبدو محفوفة بالمخاطر اليوم، لكنها يمكن أن تنتج “ديزني لاند” لبناني فلسطيني جذاب في المستقبل، هو العجز التام أيضاً عن تفسير الاشتباكات المتواصلة في المخيم منذ خمسة أيام، أو بتعبير أدق العجز عن إدراجها في أي سياق سياسي أو أمني، محلي فلسطيني أو لبناني، أو حتى خارجي، رغم الجهود الجبارة التي بُذلت ولا تزال تبذل، لكي تقدم معركة عين الحلوة الراهنة بما هو أبعد من كونها خدمة للعدو الصهيوني المتربص على الحدود، والجاهز للانقضاض على الساحة اللبنانية الفلسطينية الواحدة : حتى الافتراض الأول بأن ثمة صراعاً داخلياً بين الفصائل للسيطرة على المخيم وسكانه الـ65 ألف إنسان، ليس عليه أي دليل. الأدلة كلها معاكسة. ليس هناك تنظيم فلسطيني واحد من حوالى 26 تشكيلاً موجوداً على “الساحة” يرغب أو يطمح أو يستطيع أن يتحمل مثل هذه المسؤولية. العكس تماماً هو الصحيح.. وحتى الاشتباه بأن ثمة طرفاً لبنانياً، السلطة أو حزب الله، أو سواهما يؤجج أو يتدخل أو يستفيد أو يراهن على مثل هذا الصراع المفترض على المخيم، ليس عليه برهان، وليس له منطق أو تبرير.

البحث مستمر بلا جدوى وبلا أساس، عن دور للسلطة الفلسطينية ومخابراتها في رام الله، أو عن دور لحركة حماس وبقية معارضي السلطة، في تأجيج هذا الصراع. وكذلك التنقيب عن دور للمخابرات السورية أو الايرانية في زعزعة أمن المخيم، خدمة لمواجهات دمشق وطهران المفتوحة مع الامبريالية الأميركية وعملائها، لم يصل إلى نتيجة مقنعة حتى الآن.. مثله مثل الحفر في بقية الأزمات الإقليمية والدولية و”تداعياتها” على الأمن الوطني اللبناني والفلسطيني، وما يمكن أن تتركه تلك المعركة من أثر على انتخابات الرئاسة اللبنانية المعطلة.
الهلوسات اللبنانية في تفسير ما يجري في مخيم عين الحلوة، ما زالت ترفض الاقتناع بأن الأمر لا يعدو كونه اشتباكاً بدأ فردياً وتطور ليصبح عائلياً وعشائرياً، ثم استدرج بقية الأقارب والأصحاب، الذين يشكلون مجموعات مسلحة تتقاسم السيطرة والحماية للأحياء التسعة للمخيم والأزقة الصغيرة داخله. صحيح أن تلك المجموعات تختلف في ما بينها على الموقف من الغزو الروسي لأوكرانيا أو على السيادة الاوكرانية على شبه جزيرة القرم، او على احتمالات الحرب النووية العالمية.. لكنها كلها تنتمي إلى ثقافة واحدة، ثقافة السلاح الفالت، غير المنضبط، المتوارثة منذ العام 1969 وحتى اليوم.

لذلك ليس هناك من داعٍ، لتوريط الجيش اللبناني في هذه المعضلة التاريخية، ولا طبعاً لإتهام أي لبناني بأنه سعيد ببقاء هذا السلاح السائب، الوارث لسلاح لم يكن أغلبه مقاوماً للعدو الاسرائيلي. الوقت الآن هو للتأمل في إمكان تحويل مخيم إلى ديزني لاند لبناني فلسطيني مشترك.

المدن