أيّ عصا سحرية تمتلك الصين الرسمية حتى تمكنت، وتتمكن تباعاً، من كسر جليد لاح أنه سميك قديم متقرّن في العلاقات بين السعودية وإيران؛ فما كاد كثيرون يفلحون في التقاط أنفاسهم بعد مفاجأة اختراق صيني أوّل (مبادرة الرئيس الصيني، مطلع آذار/ مارس الماضي، شي جين بينغ للجمع بين الرياض وطهران) حتى جاء التطور المباغت الثاني في لقاء وزيرَي خارجية البلدين في بكين دائماً وإعلانهما الاتفاق على استئناف العلاقات الدبلوماسية وفتح السفارتين؟ وهل توفير عصا، من نوع خارق وقادر على اجتراح العجائب، ضروري هنا لتأويل المنقلبات التي يمكن أن تطرأ على سياسات دولية أو إقليمية تتصف، من حيث المظهر الخارجي والمعطيات الظاهرة على الأقلّ، بالتعقيد والتشابك وصعوبة الحلحلة؟

العصا استعارة بالطبع، أو هي في تبسيط أوضح مجاز عن أدوات متعددة الوظائف، جيو ـ سياسة واقتصادية ودبلوماسية، قد تتوفر لدى جهة وازنة في وسعها التوسط بين قضيتَين أو أزمتَين أو عاصمتين، لصالح الأطراف الثلاثة في أوّل الجهد وآخره؛ مقترنة، غالباً، بتراكم سلسلة من العوامل المساعدة على تليين هنا أو تنازل هناك، مثلما هي مشروطة بضرورة انحسار قطب رابع كان في الماضي القريب يمتلك عناصر الضغط والتعكير أو حتى تعطيل جهود المصالحة. في صياغة أوضح:

ـ مع وصول العلاقات السعودية ـ الإيرانية إلى ما يشبه درجة الصفر في التحكّم والتحكّم المضاد (اليمن مثلاً بالنسبة إلى الرياض، وملفّ العقوبات الاقتصادية الخانقة ومأزق الاتفاق حول البرنامج النووي بالنسبة إلى طهران)؛
ـ ومع بحث الرياض عن نظائر بديلة (روسية وصينية، أساساً) يمكن أن تحدّ في قليل أو كثير من قيود التبعية السعودية المتأصلة للولايات المتحدة، مقابل دأب طهران على مقارعة الخصم الأمريكي بما ملكت من وسائل وطرائق وساحات؛
ـ فإنّ من المنطقي أن تتقدّم بكين إلى المشهد، وأن تكون مصالحها مع الرياض وطهران، العالقة في الآن ذاته مع واشنطن، هي الحافز والميزان والمحك، خاصة وأنها القوّة الاقتصادية والتكنولوجية والاستثمارية الصاعدة، من جانب أوّل؛ وأنها ليست روسيا، المتورطة في أكثر من جبهة عسكرية خارجية، والأعلى كموناً بما لا يُقاس بصدد استثارة حساسية واشنطن وإغضاب البيت الأبيض والكونغرس معاً، من جانب ثانٍ.
هذه الخلاصة تظلّ حصيلة معطيات حاضرة ومرئية، تحظى أيضاً بمقادير غير قليلة من المنطق السليم الذي يغطي القسط الأعظم من جوانبها؛ الأمر الذي لا ينفي، للوجاهة المنطقية إياها، وعورة الدروب التي يتوجب أن تقتفيها المصالحة، بصرف النظر عن فاعلية الوسيط الصيني أو ما يحمله من أوراق تبدو كفيلة بتعبيد المسير. ثمة، في بُعد أوّل، ما يكتنف الركائز الوجودية ذاتها للبلدَين، في محيط إقليمي مشتعل أو لم يتوقف عن الاحتقان بصدد الاستقطاب العتيق إياه، السنّي الذي تقوده السعودية، والشيعي الذي تتولاه طهران فعلياً وتنغمس فيه منذ انتصار الثورة الإسلامية وعودة الإمام الخميني، سنة 1979.

المسائل هنا ليست فقهية، إلا في حدود سطحية أقرب إلى تمويه الجوهر، لأنّ طبيعتها الوجودية تقتضي من طهران تسعير ما تسمّيه «ثورة المستضعَفين» وتصديرها في أنساق ميليشيات صغرى كثيرة متناثرة وأخرى كبرى متمركزة على شاكلة «حزب الله» في لبنان و«الحشد الشعبي» في العراق و«أنصار الله» في اليمن.

ما تقتضيه من الرياض، في المقابل، ينبسط في التاريخ الحديث والمعاصر على فصول عديدة، تضمنت معظمها قطع العلاقات مع طهران على غرار أحداث مكة 1987، كما ذهبت في مناسبات أخرى شأو إعدام الشيخ السعودي الشيعي نمر باقر النمر، وتأخذ صباح مساء شتى أشكال القلق السعودي الأمني من التحريض الإيراني للمواطنين السعوديين الشيعة في المنطقة الشرقية وفي محافظتَي القطيف والأحساء أو في مختلف أراضي المملكة.

العصا السحرية الصينية تذهب، بالتعريف الذي لا يتعارض مع أصول أخلاقيات الاتجار الصيني المعاصر وخاصة التكنولوجي والمعلوماتي منه، إلى ما يشبه إدارة الموقع والمتجر والمختبر؛ أي إلى المراهنة على علاقات بنيوية وبينية بين مؤسسات الدولة في البلدين، التي تؤاخي بين استيراد كميات هائلة وقصوى من النفط السعودي والإيراني، وبين تصدير تطبيق «تيك توك» على سبيل المثال الراهن الأبرز. والأمر هنا لا يدخل في عداد قوانين العولمة، ذات السطوة والعشوائية في آن معاً، وحدها، وعلى أهميتها؛ بل يشتغل على تطورات آنية لم تكن في المشهد قبل سنوات قليلة فقط، مثل التوتر السعود ـ الأمريكي بصدد قرارات منظمة «أوبك» أو اعتماد الولايات المتحدة نهجاً في تفضيل النفط الصخري على نحو يُسقط الكثير من هيمنة النفط السعودي (إدارة الطاقة الأمريكية توقعت أن يرتفع إنتاج الزيت النفطي إلى أكثر من 9 ملايين برميل يومياً) أو… تيه إدارة جو بايدن بين الوعد بتحديد دور ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وبين الانتهاء إلى حال معكوسة يكيل فيها بن سلمان طعنات دبلوماسية ونفطية نجلاء إلى الشيخ الأمريكي الرئيس.

ثمة الكثير الذي يتوجب أن يُحتسب أبعد من قدرات العصا السحرية الصينية، وفي الطليعة ما يُنتظر من مفاعيل سلبية داخلية إزاء طيّ عدد من الملفات الحساسة، في السعودية كما في إيران، وعلى مستويات الشوارع الشعبية أو تلك الدينية، العفوية منها أو المنظمة؛ فكيف والتعقيدات الأشدّ سخونة ليست في داخل البلدين بقدر ما هي خارجهما في الإقليم الواسع الشاسع، العراق وسوريا ولبنان مثل اليمن والبحرين والكويت؟ البعض يساجل بأنّ زخم المبادرة الصينية راجع إلى استجابة بن سلمان وحماسه لوضع المزيد من عناصر التكييف السعودي الداخلي على أسرّة العلاج بالصدمة، فضلاً عن شهية شخصية لتصفية حسابات قديمة مع بايدن على صلة بمقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي. فإذا جاز هذا السجال، فإنّ المشهد الداخلي الإيراني، الموازي في أكثر من اعتبار، ليس بعدُ جاهزاً لطرائق علاج مماثلة مع الدولة ذاتها التي أمطر الحوثيون منشآتها النفطية ومطاراتها بوابل من صواريخ «الحرس الثوري» الإسلامي.

ليس مجرداً من مغزى بالغ الخصوصية، وهو بدوره أبعد من اشتغال العصا السحرية الصينية على التوسط بين الرياض وطهران، أن زيارة الرئيس الصيني إلى السعودية أواخر العام المنصرم وُضعت (من جانب الصين أوّلاً، في الواقع) ضمن إطار إقليمي، أو عربي محدد بالاسم على الأقلّ. فقد تقصد الناطق باسم الخارجية الصينية التشديد على هذا البُعد حين اعتبر الزيارة «حجر أساس صانع لحقبة في تاريخ العلاقات الصينية ـ العربية» و«شراكة ستراتيجية وشاملة». ليس مستغرباً، بالتالي، أن تكون أعين الصين متوجهة إلى مشهد أوسع نطاقاً وأدسم مكاسباً، يشجع على الأمل في اغتنامه ما يعتمل في المنطقة من اختلاط أوراق واحتشاد تدخلات وصراع مصالح وتوافقات وصفقات… في آن معاً.

وإذا كان صحيحاً أنّ الصين، في انفتاحها المتسارع على الشرق الأوسط عموماً ومنطقة الخليج خصوصاً، قد قفزت إلى فراغ خلّفته السياسة الأمريكية خلال سنوات الرئيس الأسبق دونالد ترامب وخَلَفه بايدن على نحو متكامل؛ فالصحيح المقابل هو أنّ تاريخ التبعية السعودية للولايات المتحدة، الطويل والمركّب والعضوي تقريباً، لا يسمح بقفزة إلى الفراغ ذاته. ليس بين ليلة وضحاها بادئ ذي بدء، وليس قبل أن يسود الوئام والسلام في ربوع، وعلى خرائب وأطلال، حروب الوكالة بين الرياض وطهران.

القدس العربي