بين الذين انحسرت حظوظهم في العام 2022، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي استدعى الحرب على أوكرانيا ثم فوجئ بما عرّته “العملية العسكرية الخاصة” من انهيار بنيوي في المؤسسة العسكرية الروسية التي يطالب بوتين اليوم بإعادة تركيبها وكأن حرباً لم تكن. مرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية علي خامنئي و”حرسه الثوري” انحسرت حظوظهم وهيبتهم بعدما كابرت الجمهورية الإسلامية الإيرانية في ملف المفاوضات النووية، وفي تعاملها مع الاحتجاجات الشعبية، وكذلك في التباهي بعلاقاتها الاستراتيجية مع روسيا والصين، فسقطت في حساباتها الخاطئة في ما يتعلق بالصين وتورطت برهاناتها الفاشلة في حرب روسيا على أوكرانيا.
الفائزون عام 2022 هم نساء إيران بشجاعتهن وتمكنهن من إحداث تغييرٍ في سياسة أوروبية وأميركية كانت متهاونة جداً مع رجال النظام في طهران إلى درجة الانبطاح أمامهم بذريعة الخوف من انتقامهم نووياً وإرهابياً. والأهم، تمكنت نساء إيران من حشد تحرك داخلي لم يراهن على الدعم الخارجي وإنما على عزم الشعب الإيراني وصلابته، فقلبن المعادلة، وفرضن على العواصم إعادة جرد الحسابات.
مشهدان في موسكو وواشنطن في غضون الأيام ذاتها الأسبوع الماضي كانت لهما دلالات بالغة، وبالتأكيد مؤلمة في روسيا، وعاطفية في كييف، لكنها أيضاً ذات أبعاد عسكرية قد تصبح حاسمة في الحرب الأوكرانية.
في وقت كان الرئيس فلاديمير بوتين ينتقد جيشه وقيادته بنبرة تكاد تقترب من التوبيخ على الفشل العسكري والوهن فيه، كان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يقدّم الى الكونغرس الأميركي المنعقد للاستماع اليه عَلَماً ضخماً لأوكرانيا موقَّعاً عليه من جنود في ساحة الحرب مع روسيا، ثم ميدالية من جندي أوكراني الى الرئيس جو بايدن.
بين أبرز إهانات تطورات الحرب الأوكرانية لفلاديمير بوتين هو استمرارية فولوديمير زيلينسكي الذي ظنّ الرئيس الروسي أن إزاحته عن السلطة ستكون نزهة عسكرية. سيقال إن زيلينسكي ليس الأدهى والأذكى بل انه ساذج ومغرور لأنه يقدّم أوكرانيا ذخيرة لدول حلف شمال الأطلسي “ناتو” في معركتها مع روسيا. بل أن هناك من بدأ يتحدّث عن العزم الغربي على إزاحة زيلينسكي من السلطة لصالح قائد القوات الأوكرانية، فاليري زالوجني، الذي يُسمى بمعشوق الأوكرانيين معتبرين أنه بين أعلى القادة العسكريين الأسطوريين. قد يكون هذا الكلام تافهاً ومجرد اشاعات، وقد يكون بين طيّاته بعض الجدّية. المهم، في هذا الإطار، أن فولوديمير زيلينسكي انتصر على فلاديمير بوتين في الحرب الإعلامية والسياسية، وأن بوتين لم ينتصر على زيلينسكي في الحرب عسكرياً ولا تمكّن من إسقاطه وإسقاط حكومته كما تكهّن وتصوّر.
خطاب الرئيس بوتين الأربعاء الماضي مع قادة وزارة الدفاع أعاد الى الأذهان خطابه أمام المجموعة العسكرية الرفيعة المستوى قبل سنة تماماً عندما أعلن عمليّاً عزمه على خوض الحرب الأوكرانية وظنّ أن دول حلف الناتو ستتراجع أمامه، فتورّط ولم يتمكّن من التراجع.
هذه السنة، وأثناء الاجتماع السنوي المخصص لوزارة الدفاع الروسية لاستعراض إنجازاتها وعرض استراتيجيتها للعام المقبل بما فيها الاستراتيجية التسليحية لمواجهة الغرب، عرض بوتين نقاطاً عدة مهمّة من بينها التالي: تعهّد بالمحافظة على توازن الردع النووي ورفع الاستعداد القتالي للقوات النووية، كما تعهّد بتزويد القوات الاستراتيجية بكل أنواع الأسلحة الحديثة. قال ما معناه إن “العملية العسكرية” ستستمر لتحقيق أهدافها، وهي السيطرة على أوكرانيا. كشف عن عزمه زيادة عدد القوات الروسية في السنة المقبلة الى ما يقارب 1,5 مليون عنصر مما اعتبره البعض تلميحاً الى حرب “جديدة” تتعدّى أوكرانيا- قد تكون في بولندا أو البلطيق وقد تكون مع اليابان. وأوضح أن لا مجال للمفاوضات.
الرئيسان الأميركي والأوكراني بدورهما أوضحا في واشنطن إغلاق الباب في وجه أيّة محادثات أو مفاوضات أميركية – روسية بشأن أوكرانيا. وهذا إنجاز لفولوديمير زيلينسكي الذي عارض كليّاً أن تقرّر القيادتان الأميركية والروسية مصير أوكرانيا. أنجز أيضاً انتصاراً عسكرياً بحصوله على الدعم العسكري الذي سعى وراءه بما في ذلك منظومة صواريخ الباتريوت المتطوِّرة التي اعتبرها الكرملين توسيعاً للحرب على روسيا بتدخل أميركي مباشر. وكما قال أحد الخبراء العسكريين، حقق الرئيس جو بايدن للجنرالات الأميركيين حلم اختبار واستخدام الباتريوت ضد روسيا.
كذلك، حصل الرئيس الأوكراني على دعم الرئيس الأميركي لمؤتمر سلام حول أوكرانيا بحلول نهاية كانون الثاني (يناير) أو بداية شباط (فبراير) من السنة المقبلة يشارك فيه تحالف القوى التي تدعم أوكرانيا في حربها ضد روسيا. أحد الخبراء الروس اعتبر ذلك مؤتمراً يشابه مؤتمر طهران لعام 1943، كما قال، من دون روسيا، بل باستبعادٍ مدروس لروسيا عن صنع القرار العالمي. مؤتمر طهران كان اجتماعاً استراتيجياً شارك فيه جوزف ستالين (الاتحاد السوفياتي) وفرانكلين روزفلت (أميركا) وونستون تشرشل (بريطانيا) في أعقاب الغزو السوفياتي – الإنكليزي لإيران عقد في السفارة السوفياتية في طهران. هدفه كان رسم خريطه التعايش بعد الحرب.
بكلام آخر، بدأ الاستعداد الغربي لرسم خريطة النظام العالمي الجديد من دون روسيا، وبدأت خطوات استبعاد روسيا عن التجمعات الدولية الرياضية منها على نسق المونديال في قطر والألعاب الأولمبية في باريس لعام 2024، كما من مؤتمرات دولية كان يشارك فيها كبار المسؤولين الروس مثل مؤتمر ميونيخ للأمن.
كنت أقرأ مقالاً كتبته قبل سنة تماماً نشر هنا بتاريخ 23 كانون الأول (ديسمبر) 2021 تحت عنوان: فلاديمير بوتين لا يتقن التراجع ولا يرغب به- وهنا المشكلة. فقد كانت المواجهة حتميّة بعدما وضع الرئيس بوتين شروطه أمام الناتو ومطالبه من أعضاء الحلف بالضمانات المكتوبة. مَن رسم خطوات الآخر: الرئيس الروسي أو قادة الناتو؟ الإجابة مهمّة إنما في نهاية المطاف، ليس مهمّاً من الذي ورّط الآخر. الأهم هو من تورَّط أو ورّط نفسه.
0 seconds of 0 secondsVolume 0%
بالأمس القريب، كان فلاديمير بوتين “يذبح بظفره” عالمياً وكان بينه وبين الشعب الروسي عقد اجتماعي بحيث يحكم الرئيس بلا كثير من المحاسبة من الشعب، وبحيث يؤمِّن الرئيس للشعب الرخاء والازدهار والمستقبل الآمن. اليوم، ينفرط هذا العقد بسبب الحرب الأوكرانية وتنقسم الآراء حولها: البعض يؤكّد أنه لم تكن هناك حاجة للمغامرة، والبعض الآخر يصرّ أن الناتو لم يترك خياراً آخر.
الحرب لم تنتهِ في أوكرانيا. روسيا لم تنهزم، لكنها قد تنهزم، وهذه بحدّ ذاتها فكرة لم تكن واردة. نفوذ روسيا الإقليمي والدولي تضاءل، وشراكاتها تقلّصت. حتى الصين لم تتسرّع الى احتضان روسيا، لا في البداية مطلع هذه السنة، ولا الآن في نهاية العام 2022.
إيران بين قِلّة من الدول التي ربطت مصيرها بمصير روسيا الى درجة أن مسيّراتها باتت جزءاً من الحرب على أوكرانيا، بكل ما في ذلك من تداعيات وإفرازات على العلاقات الأوروبية – الإيرانية وتأثير على النيّة الأميركية لفتح صفحة جديدة لإحياء الصفقة النووية مع طهران.
القيادات الإيرانية مزّقت بمكابرتها إحياء الصفقة النووية التي راهنت عليها للتخلّص من العقوبات، وبالتالي، لتنفيذ برنامج النهضة الاقتصادية وتوسيع النفوذ الإقليمي عبر دعمها للقوات غير النظامية والميليشيات في العراق وسوريا ولبنان واليمن.
إحياء الصفقة بات ميتاً، كما قال الرئيس الأميركي، لكنه لا يزال حلماً يراود القيادات الأوروبية. إدارة بايدن غاضبة جدّاً من “مفاجأة” المسيّرات الإيرانية المتفوقة والتي يبدو أن شركات أميركية وأوروبية أمّنت القطع الضرورية للمسيّرات، الأرجح سهواً وليس عمداً، إنما على كل حال بما يشكّل إحراجاً لا يُستهان به بالذات للمسؤولين الأميركيين. وإدارة بايدن مُحرجة للغاية أمام قمع النظام في طهران للنساء والفتيات والشباب والرجال الذين يشاركون في الاحتجاجات.
فهذا هو النظام ذاته الذي كان بعض رجال إدارة بايدن يستقتلون لإرضائه لهثاً وراء إبرام الصفقة الثنائية وإحياء الصفقة النووية معه. الرئيس بايدن بذاته كان قبل سنة متحمّساً وعازماً على الإطاحة بما أطاح به سلفه دونالد ترامب الذي مزّق الاتفاقية النووية عام 2018 والتي كان سلفه باراك أوباما قد أبرمها عام 2015. اليوم إن جو بايدن بنفسه يرفض التساهل مع طهران ويعتزم صدّ الدول الأوروبية التي لا تزال تسعى وراء إنقاذ الصفقة النووية، بالرغم من خجلها من وقوف النظام في طهران ضد أوروبا في الحرب مع روسيا.
فالأوروبيون ما زالوا يتحركون وراء الكواليس مع طهران لأسباب نفطية ونووية وعاطفية – فهم يشعرون أنهم استثمروا كثيراً في الصفقة النووية وتقدموا بمسودّة للصفقة ما زالوا يؤمنون بصلاحيتها. تحاول قيادات أوروبية استخراج مواقف هنا وهناك من طهران كي لا يُغلَق الباب كليّاً – مواقف على نسق اعتراف إيران بسلامة أراضي أوكرانيا.
لكن الرئيس بايدن مصرّ على رأيه لدرجة العناد بعدما اكتشف وجوه الجمهورية الإسلامية الإيرانية الخفيّة. اكتشف أن طهران لم تكن صادقة في زعمها أنها جاهزة لوضع برنامجها النووي في خانة الشفافية، ولذلك رفضت التعاون المطلوب مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. اكتشف أن إدارته كانت مخطئة في رضوخها أمام الإملاءات الإيرانية باستبعاد السلوك الإيراني الإقليمي والصواريخ الإيرانية عن المفاوضات، مع حصر الصفقة في خانة الترتيبات النووية. استذكر أن جزءاً من الصفقة التي أبرمها باراك أوباما حين كان جو بايدن نائباً للرئيس تعهّد بعدم التدخل في الشؤون الداخلية الإيرانية وتضمّن الاعتراف بشرعية النظام في طهران – تلك الشرعية التي تفتك بمبدأ آخر زعمت الإدارات الديموقراطية أنه أساساً لها، مبدأ حقوق الإنسان.
نساء إيران فعلن ذلك. نساء إيران هنّ اللواتي أيقظن إدارة بايدن وليس فقط الصواريخ والمسيّرات في الحرب الأوكرانية. لكن هذا بحد ذاته ليس سياسة. الاستفاقة بمفردها لا تشكّل سياسة. ما تحتاجه إدارة بايدن هو أن تبني على ما استدركته مثل إعادة صقل العلاقات الأميركية مع الدول الخليجية العربية، ومثل التنبّه الى توغّل “الحرس الثوري” الإيراني في الدول العربية الركيكة والهشّة مثل العراق وسوريا ولبنان.
فبينما يمكن تصنيف الدول الخليجية العربية في خانة الفائزين بالحظوظ المواتية للعام 2022، لا تزال دول المشرق العربي تندب حظها الذي وضعها رهينة لما تقرره الجمهورية الإسلامية الإيرانية وللمشروع الفارسي في المنطقة العربية الذي لربما بدأ يتهاوى.
عام 2023 قد يصبح عام الفرز المصيري ليس فقط لدول اعتقدت قياداتها أن مكابرتها هي مفتاح عظمتها، مثل روسيا وإيران. فالذين تلقّوا نتائج مغامرات القيادات الروسية والإيرانية، من الشعب الإيراني الى الروسي الى الأوكراني الى اللبناني سيمرّ في مرحلة فرز مصيري، قد يكون إيجابياً أو سلبياً. فستكون سنة صعبة، لكنها قد تحمل في طياتها ولادات جديدة وربما… جميلة.
النهار العربي
Be the first to write a comment.