القضية الفلسطينية هي، لا شك ولا ريب، إحدى أنبل وأعدل القضايا، إن لم تكن أعدلها على الإطلاق، تعرض فيها شعب لظلم عظيم، إن لم يكن الأعظم في تاريخ البشرية.

ومن أبشع أنواع الظلم الذي تعرض له الشعب الفلسطيني، الاستخدام السيء لقضيته من قبل قوى متوحشة، محلية وإقليمية ودولية، هي :

١- الاتحاد السوفييتي (والد روسيا)، وأتباعه من الأحزاب الشيوعية العربية، كان أول من أساء استخدام القضية، استخدم القضية الفلسطينية لمآربه الخاصة في حربه مع أمريكا والغرب، وصراعه معهما على النفوذ في العالم. اليسار السوفييتي، هو مؤسس استخدام القضية الفلسطينية، والتلاعب بها.

٢- وبسرعة، بوقت مبكر جداً، أدركت الأنظمة العربية المستبدة، الوراثية والعسكرية، أن استخدام هذه القضية النبيلة يحقق لها فوائد كبيرة، إنها سبيل مثالي لإشغال الناس عن حقوقهم المنتهكة، وقضاياهم ومطالبهم المشروعة وحاجاتهم الأساسية، وخاصة قضايا التنمية والحرية وحقوق الانسان والتداول السلمي للسلطة.

٣- ومنذ تفجر الثورة الإيرانية عام ١٩٧٩، وتحولها إلى نظام استبدادي شديد الدموية، طامح للتوسع والهيمنة على المنطقة العربية، صارت القضية الفلسطينية، ومظلومية الشعب الفلسطيني، الأداة الأساسية بيد نظام الخميني للحصول على شرعية للتدخل في دول المنطقة، وإنشاء ميليشيات فيها تأكل الدول وتمزقها وتحولها لمستعمرات إيرانية تدور في فلك طهران، وتخدمها في صراعاتها الدولية.

منذ ١٩٧٩ صارت القضية الفلسطينية أداة لتبرير وتمرير هيمنة إيران على أقطار عربية أساسية،هي لبنان والعراق وسورية واليمن، والتحضير للهيمنة على المزيد منها.

٤- ومنذ عام ١٩٩٦ أدخلت قناة الجزيرة القطرية إساءة استخدام القضية الفلسطينية إلى كل بيت وكل عقل عربي.

مصطلحات الاستخدام السام للقضية الفلسطينية :

أ- مصطلح القضية المركزية :

تسمي الأنظمة والقوى المتلاعبة بالقضية الفلسطينية، هذه القضية ب “القضية المركزية” أو “القضية الأولى،” للأمة العربية، أو للأمة الإسلامية، ليس لتكريس كل الجهود لخدمة هذه القضية، وإنما لإلهاء الشعوب بها، عن قضايا ملحة وعاجلة خاصة بهذه الشعوب، مثل مكافحة الفساد، والاستبداد، والتجزئة، وانتهاك حقوق الإنسان.

فإذا كانت القضية الفلسطينية هي القضية المركزية، فكل قضية أخرى هي قضية هامشية، وغير ملحة، ولا عاجلة، ولا يجوز أن تطرح في حضرة القضية المركزية.

بين يدي الآن نسخة من أوامر النظام السوري للعاملين في تلفزيون النظام، عن أولويات التغطية الإعلامية للقمة العربية المنعقدة في دمشق عام ٢٠٠٨ . الأولويات هي القضية الفلسطينية، ثم القضية الفلسطينية، ثم القضية الفلسطينية، ولا ذكر لقضايا البطالة والتنمية والحريات وحقوق الإنسان وفتح الحدود والتكامل الاقتصادي وهجرة العقول، ولا مشاكل الماء والكهرباء والخبز، ولا البيئة، ولا أي من القضايا الخطيرة التي تمس حياة ومستقبل المواطن العربي.

ورفع القضية الفلسطينية للمرتبة العليا، هو مجرد رفع كلامي، يعني الحديث كثيراً عنها، دون فعل أي شيء لها، ولا لشعبها. يعني إصدار بيان ختامي قوي (لفظيا) بشأن القضية الفلسطينية، ولا شيء غير ذلك.

في الواقع، وفي الحقيقة، لم تكن القضية الفلسطينية أبداً القضية المركزية، ولا الأولى، لأي من الجهات التي تستخدمها. لقد استخدمت أنظمة عربية كثيرة القضية الفلسطينية كمخدر للشعوب، ونجحت بذلك إلى حد كبير في الهروب من قضايا ومطالب ملحة لشعوبها.

واستخدمت القضية الفلسطينية لتبرير وصول أنظمة عسكرية للسلطة، وهي كانت كارثة على الشعوب، دون أن تقدم أي شيء للقضية الفلسطينية.

ومصطلح القضية المركزية قاد إلى التعامل مع القضية الفلسطينية (لفظيا) على أساس أنها ليست فقط القضية المركزية أو الأولى، وإنما باعتبار أنها القضية الوحيدة للعرب، ثم قاد إلى اعتبارها القضية المقدسة، ما أدى إلى إلغاء كل القضايا الأخرى، وليس فقط وضعها في المركز الثاني بعد القضية الفلسطينية.

وأدى هذا إلى مفارقات مضحكة مبكية، صار احتلال فلسطين جريمة درجة أولى، بينما احتلال أو تدمير العراق وسورية ولبنان واليمن ليس جريمة بالدرجة الثانية، وإنما مباحاً، ومرحبا به، وقابلاً للدعم، والمشاركة فيه.

صار احتلال شبر من فلسطين، خطيئة لا تغتفر، ومدان أكثر من احتلال مليون كلم مربع من الأرض العربية (أراضي العراق وسورية واليمن لبنان)، وصار احتلال ٤ دول عربية (وتفتيتها، وتدميرها وارتكاب فظائع وجرائم إبادة بحق سكانها، وهم ١٠٠ مليون عربي) عمل يمكن التسامح معه، إذا أطلق فاعله تصريحات أو صواريخ عمياء دعماً للقضية المركزية.

وصار أي مجرم وأي طاغية، ولو كان مرتكب جرائم ضد الإنسانية، بما فيها جريمة الإبادة الجماعية بحق شعبه، وشعوب عربية، صار يسامح على كل جرائمه، ويغفر له، إذا أطلق تصريحا أو صاروخاً، تحت شعار تحرير فلسطين.

ب – شعار تحرير فلسطين :

يرفع المتلاعبون بالقضية الفلسطينية سقف أهدافهم إلى أعلى مستوى. إلى مستوى غير ممكن التحقيق في الظرف الإقليمي والعالمي الحالي، فيستخدمون بخفة وكثرة، مصطلح تحرير فلسطين، ويعدون الجماهير بقرب تحقيق هذا الهدف، وهي في الحقيقة بعيدة جداً جداً عن تحقيقه، وتزداد بعداً عن تحقيقه كل يوم.

لا يستخدم المتلاعبون بالقضية الفلسطينية المصطلحات والأهداف الواقعية، القابلة للتنفيذ، مثل إبقاء الصراع إلى حين تغير موازين القوى المحلية والدولية، تعزيز قدرة الشعب الفلسطيني على الدفاع عن نفسه، دعم الشعب الفلسطيني، الحد من الهيمنة الإسرائيلية، دعم بقاء الفلسطينيين في أرضهم، مواجهة تفريغ فلسطين من سكانها، تخفيف الاختلال الخطير في موازين القوى مع العدو، إيذاء الاحتلال، إرباك الاحتلال، إشغال الاحتلال.. وإنما يرفعون شعار تحرير فلسطين، أو تحرير القدس، أو إنهاء الاحتلال، وهي شعارات من المستحيل تنفيذها ولا بمقدار ١ بالألف، في الظرف الحالي، المحلي والإقليمي والدولي.

في ظروف العالم اليوم، لا يمكن لأي دولة تحرير ولا سنتيمتر من فلسطين، لأن إسرائيل (وحلفاء إسرائيل) ستمحوها من الوجود بأسلحة الدمار الشامل إذا فعلت ذلك. إيران وحزب الله (أكثر المتحدثين عن تحرير فلسطين) لا يستطيعون دخول الأراضي الفلسطينية المحتلة عام ١٩٤٨ ولا بمقدار سنتيمتر واحد. لم يفعلوا ذلك، ولم يحاولوا فعله، ولم يفكروا بفعله، لأن ثمن ذلك زوالهم.

ج- مصطلح العدو الوجودي:

كل يوم، يصف المتلاعبون بالقضية الفلسطينية إسرائيل بالعدو الوجودي، وحصر هذا الوصف بها دون غيرها من الخصوم والأعداء، والتأكيد على الفرق بين العداوة الوجودية والعداوة السياسية، وأن العداوة الوجودية أخطر بكثير من العداوة السياسية، أو الخلاف السياسي.

والنتيجة لا تكون بذل جهد أكبر ضد العدو الوجودي، وجهد أقل ضد العدو السياسي، وإنما تكريس كل الجهد (الكلامي) ضد العدو الوجودي، وترك العدو السياسي يفعل ما يشاء في بلاد العرب، مع إمكانية التسامح مع كل ما يفعل، لا بل والتحالف معه.

وهكذا، وبفضل هذه اللعبة اللفظية، يصبح مجرد الكلام مع إسرائيلي (محتل فلسطين) خيانة عظمى، الخيانة الأعظم، بينما الكلام والتحالف مع الإيراني (محتل أو مدمر سورية والعراق ولبنان واليمن) عملاً مقبولاً، وربما واجباً.

ويصبح احتلال إسرائيل وهيمنتها على ٣٠ ألف كلم مربع من فلسطين، أخطر بما لا يقاس، من احتلال إيران لمليون كلم مربع من الأرض العربية، وهيمنتها على ٤ دول عربية أساسية، وتدميرها وتفتيتها وسحقها.

يصبح الاحتلال المدان، هو فقط الاحتلال الإسرائيلي وليس أي احتلال آخر. وتصبح الامبريالية (نزعة التمدد والهيمنة) هي الامبريالية الامريكية والغربية فقط وليس أي امبريالية أخرى، لا الروسية ولا السوفيتية ولا الايرانية ولا الصينية..

نتائج الاستخدام السام للقضية الفلسطينية :

من النتائج أن أجيالا من المثقفين والمناضلين الفلسطينيين، وغير الفلسطينيين المتخصصين بالقضية الفلسطينية، لا تعرف ولا تهتم بقيم وقضايا ناضلت البشرية ألوف السنين للوصول إليها، وهي من أشد ما يحتاجه العرب ويناضلون ويقتلون ويعذبون للوصول إليه، مثل حقوق الإنسان، الحريات العامة، العدالة، التداول السلمي للسلطة، التنمية والتقدم..

ومن أخطر نتائج الاستخدام السام للقضية الفلسطينية، تقديم فلسطينيين (غالبية الفلسطينيين الساحقة)، قضيتهم على قضايا العالم كله، بما في ذلك قضايا عرب ومسلمين من أشد الداعمين والمضحين من أجل القضية الفلسطينية، وعدم الاهتمام بخسائر الآخرين، بمن فيهم أشد المخلصين.

فتدمير العراق وتفكيكه واحتلاله وموت مليون من شعبه، نتائج مقبولة عندهم، ومعقولة، لإطلاقه عشرات الصواريخ على إسرائيل. وقتل حزب الله ٤٤ إسرائيلي (معظمهم عرب)، مقابل دمار لبنان، نتيجة مقبولة، وعادلة.

وأخطر من ذلك تقديم عرب ومسلمين قضية فلسطين على قضايا عربية وإسلامية بالغة الأهمية والخطورة.

والأخطر، ومنتهى غياب العقل، تقديم عرب ومسلمين قضية فلسطين على قضاياهم، وعلى حياتهم.

يصبح احتلال العراق من قبل أمريكا مداناً بشدة، واحتلال نفس الدولة (العراق) من قبل إيران أمراً عادياً، مقبولاً، لا يثير أي اهتمام، وربما مرحباً به.

أكثر من ذلك يصبح احتلال أمريكا لجزء من سورية احتلالا بغيضاً، واحتلال روسيا وإيران، لأجزاء أخرى من نفس الدولة، بنفس الوقت (الآن)، أمراً عاديا.

في سورية مجموعة من المحتلين الأجانب، الموجودون في نفس البلد، في نفس الوقت، ولا يرى ضحايا الاستخدام السام للقضية الفلسطينية، إلا المحتل الأمريكي. إنهم في الحقيقة ليسوا ضد الاحتلال، إنهم ضد أمريكا، وفي فلسطين هم ليسوا ضد الاحتلال، وإنما ضد إسرائيل.

يصبح من يحملون السلاح ضد الاحتلال الأمريكي أبطالاً، ويصبح من يحملون السلاح ضد الاحتلال الإيراني والروسي إرهابيين، أو متمردين، وعلى أقل تقدير.. مشاغبين.

يصبح قصف إسرائيلي لقواعد إيرانية في سورية عدواناً على السيادة السورية، وعلى الأمة، ولا يصبح قصف روسيا وإيران للشعب السوري عدواناً لا على السيادة السورية، ولا على الأمة.

المخزي والمرعب في الأمر هو مشاركة كثير (تقريبا كل) المثقفين والمناضلين الفلسطينيين في هذا الاستخدام السام للقضية الفلسطينية رغم أضراره الكارثية القاتلة على الشعب الفلسطيني وعلى القضية الفلسطينية. حيث باتت إحدى أعدل وأنبل القضايا (القضية الفلسطينية) مجرد أداة بيد أبشع الأنظمة المستبدة والفاسدة، وحتى الإبادية، وقوى دولية في غاية البشاعة والعدوانية.

صارت القضية الفلسطينية في ذهن عدد متزايد من العرب قرين الفاسدين والمستبدين والقتلة وحتى الإباديين، وأداة من أدوات قمع تطلعات الشعوب ومنعها من نيل حقوقها الأساسية.

صارت لائحة الأنظمة الداعمة (لفظياً) للقضية الفلسطينية هي تقريبا لائحة الأنظمة الأشد استبدادا وفساداً ووحشية وإجراماً، تضم محتلين لشعوب أخرى، وتضم إباديين يمارسون الإبادة الآن بحق شعوب أخرى.

صار يوجد فلسطينيين (نسبة عالية جداً تفترب من ١٠٠٪ من الفلسطينيين) يدعمون احتلال شعوب مؤيدة لهم ولقضيتهم (مثل احتلال سورية من قبل روسيا، واحتلال العراق ولبنان واليمن وسورية من قبل إيران) ويؤيدون بحرارة احتلال شعوب أخرى (الاحتلال الروسي لأوكرانيا) بمبررات أنانية ومصلحية تشبه المبررات التي يسردها أنصار الاحتلال الصهيوني لفلسطين المحتلة. في حين أنه من المفروض والمنطق والعدالة والعقل، أن يصبح من أمضى عمره يعاني من احتلال كريه، مجرم (مثل الشعب الفلسطيني) أن يصبح عدواً لدوداً لكل محتل في العالم، وصديقاً حميماً لكل الشعوب الخاضعة للاحتلال، في كل زمان، وكل مكان من العالم.

والخلل في الفهم والوعي والتفكير وصل إلى حدود جنونية مرعبة، حيث صارت نسبة عالية جداً، من الفلسطينيين يؤيدون (أو لا يبالون ب) إبادة شعوب أخرى، وفي مقدمتهم الشعب السوري، أكثر شعب في العالم قدم ضحايا وأثمان باهظة في دعم الشعب الفلسطيني وقضيته وحريته.

وصار شعب الجزائر، الذي أعظم إنجازاته هو طرد المحتل الفرنسي من بلاده، صار من أشد شعوب العالم اعجاباً بالمحتلين الروس والايرانيين والصينيين،.

الحصيلة هي تدمير المجتمعات العربية وتعليق قضاياها، دون خدمة القضية الفلسطينية، فالأمر كله أشبه ما يكون بتعاطي المخدرات. كل ما هو مطلوب من النظام، والحزب، والمثقف، والمواطن، هو أن يتلفظ بكلمات الدعم والحزن والغضب، لينال صفة المقاوم أو الممانع، أو المناصر للقضية الفلسطينية.

لا يطلب منه شيء عملي يفيد فلسطين، وإنما كلمات، وخطب، ومقالات، وأغاني، وأشعار، ومواقف لفظية، وتوقيع بيانات، وكتابة بوستات ورسائل نصية، ووضع لايكات وصور.

وقد أعجب هذا الكثير من الأنظمة، والمثقفين، والمناضلين، والمواطنين، لأنه سهل، ويعفيهم من عمل شاق ومكلف وخطير، وهو دعم فلسطين والقضية الفلسطينية بالفعل.