الخطط الطموحة التي أعلِنت مع كثير من الضجة والتهديد غالبًا ما كانت تأتي بالقليل من النتائج أو بلا شيء. في عام 2008، وهو العام الأول من الإصلاح العسكري، كان هناك اقتراح لإنشاء قوات متنقلة مستقلة تضم وحدات محمولة جوًا ومشاة بحرية وقوات خاصة، ولكن لم يتحقق شيء من ذلك. البرنامج الذي تم نشره على نطاق واسع لإنتاج مقاتلة من الجيل الخامس، (Sukhoi Su-57)، يبلغ عمره الآن أكثر من عشرين عامًا، ولم ينتج سوى عدد قليل من النماذج الأولية. إن (Su-57) هي أول طائرة شبح حاولت روسيا صنعها على الإطلاق. ومن المفترض أن تكون قادرة على القتال جو-جو، وجو-أرض، ومن المفترض أن تكون رد روسيا على طائرة (F-35) من إنتاج شركة لوكهيد مارتن الأميركية، التي يتم إنتاج الآلاف منها للولايات المتحدة ولكثير من الحلفاء في جميع أنحاء العالم، من ضمن ذلك تسع دول أو أكثر من دول حلف شمال الأطلسي (ناتو). إنّ العقبات الفنية، وقرار الهند بسحب تمويلها، وانهيار كانون الأول/ ديسمبر 2019 (أول انهيار معروف علنًا) تجعل مسألة جاهزية (Su-57) للإنتاج على نطاق واسع، في وقت قريب، أمرًا مشكوكًا فيه.

منذ الحقبة السوفييتية، كان قطاع الأمن من بين أكثر قطاعات الاقتصاد اضطرابًا، عندما يتعلق الأمر بالكسب غير المشروع والفساد. في القرن الحادي والعشرين، أصبحت روسيا، على حد تعبير كارين داويشا، “كليبتوقراطية/ لصوصية بوتن”[26]. أعطى مؤشر تصورات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية لعام 2021 روسيا درجة فساد بلغت (29) نقطة، وهو ما يجعلها -حسب مقياس الصدق المكون من (100) نقطة- أقرب بكثير إلى الدولة الأكثر فسادًا في العالم (جنوب السودان مع 11 نقطة) مقارنة بالأقل فسادًا (الدنمارك وفنلندا ونيوزيلندا، 88 لكل منها). كوزير للدفاع، وضع سيرديوكوف هدفًا رئيسًا له، وهو استئصال أو على الأقل الحد من الرشوة والاحتيال المرتبط في كثير من الأحيان بشراء الأسلحة، فضلًا عن إساءة استخدام الأموال المخصصة لتحسين الظروف المعيشية للقوات. أقال بوتين سيرديوكوف في عام 2012 بسبب صلات الأخير بمسؤول في وزارة الدفاع متهم بالاختلاس. يستمر الفساد على نطاق واسع، وغالبًا ما تختفي مئات الملايين من الدولارات. وقد اعترف المدعي العام العسكري الروسي مؤخرًا بأن نحو خُمس (20 في المئة) ميزانية وزارة الدفاع قد سُرِقت. وقال مسؤولون آخرون إن ما سرِق قد يصل إلى خُمسيهما (40 في المئة)[27]. قلة من الخبراء قد يختلفون مع الادعاء الأخير لوزير الخارجية الروسي السابق، أندريه كوزيريف، بأن الفساد -والخوف من إخبار بوتين عنه- قد ترك روسيا مع “جيش ذي قيمة ومظهر خادعين”[28].

مسلحون مستعدّون للقتال – ومخيبون للآمال

كيف حال القوات الروسية في أوكرانيا؟ من المستحيل معرفة ذلك تمامًا؛ لأن معظم المصادر الغربية صديقة لأوكرانيا، في حين أن وسائل الإعلام الأوكرانية والروسية لديها حوافز للالتفاف على الحقيقة. ومع ذلك، كان الأداء العسكري الروسي أقل بكثير مما توقعه معظم الخبراء. لقد فوجئ الخبراء بأن افتراضاتهم كانت خاطئة. ربما بدا سجل الجيش الروسي الذي يعود إلى عام 2008 مثيرًا للإعجاب ظاهريًا، لكنه تم تجميعه وإعداده ضد خصوم ضعفاء. جورجيا صغيرة جدًا، وجيشها الصغير كان سيئ التنظيم للانطلاق. في شبه جزيرة القرم، واجهت قوات موسكو مقاومة ضئيلة. في سورية، قيل الكثير عن القدرات المتجددة للقوة الجوية الروسية، لكنها كانت في مواجهة المتمردين الذين كانت قدراتهم الدفاعية الجوية متواضعة في أحسن الأحوال. كما أرسلت روسيا إلى هذه العمليات الأقل حجمًا في الغالب قوات النخبة والقوات الخاصة، وليس الجنود العاديين. باختصار: لم يختبر الجيش الروسي شيئًا مثل البيئة القتالية الصعبة التي واجهها في أوكرانيا.

حتى كتابة هذه السطور، مضى على الحرب في أوكرانيا عامٌ تقريبًا. لقد أضعف مسار القتال موقف الخبراء الذين زعموا أن روسيا بعد عام 2008 قد شقّت طريقها إلى المرتبة الأولى من القوى العسكرية في العالم. حتى الآن، فشلت القوات الروسية من أعلى إلى أسفل، في معظم الاختبارات التي واجهتها في أوكرانيا. نادرًا ما يحسن المخططون العسكريون صنعًا بالاستهانة بالخصم. بعد الاستيلاء على شبه جزيرة القرم، توقّع بوتين أن الاستيلاء على كييف ممكنٌ في غضون أسبوعين. في عام 2022، بعد ذلك، قلّص بوتين هذه الفترة إلى يومَين[29].

قللت القيادة العليا الروسية عدد الجنود الذين ستحتاج إليهم لمهاجمة أوكرانيا، وبالغت في تقدير عدد السكان المحليين الذين سيرحّبون بهم. إن غزو مدينة مثل كييف، التي يبلغ عدد سكانها ثلاثة ملايين نسمة موزعين على 839 كيلومترًا مربعًا يقسمها نهر كبير وروافده، كان سيتطلب عددًا هائلًا من المتعاونين. وبمجرد انهيار خطة توجيه ضربة جوية سريعة في وسط العاصمة الأوكرانية وسط معارك بالأسلحة النارية مع القوات الأوكرانية سريعة الاستجابة في مطار أنتونوف شمال غرب المدينة يومي 24 و25 شباط/ فبراير شباط؛ انهارت الحملة الروسية.

وتشير الخطط العملياتية المعدّة بشكل سيّء، والخدمات اللوجستية المتهورة، والافتقار إلى التنسيق بين الأسلحة المشتركة، إلى أوجه قصور عميقة في القيادة العليا لروسيا. تعامل الغزاة مع دباباتهم بشكل سيئ، في محاولةٍ لدفعها إلى الأمام من دون دعم لوجستي مناسب أو مرافقة مشاة لإبعاد الطائرات من دون طيار الأوكرانية وفرق الكمائن. في السماء، “كان أداء الطيارين الروس المفرطين في الحذر أقلّ من قدرتهم وإمكانياتهم”، وفشلوا في ترجمة قوتهم الجوية المتفوقة إلى مكاسب على الأرض. كافحت القوات الروسية لاستخدام أنظمة الاتصالات الخاصة بها وفشلت في تعطيل وصول أعدائها إلى إشارات الأقمار الصناعية. تشير قصص الجنود الأوكرانيين الذين يستخدمون الهواتف الذكية في القتال، للاتصال بمدربيهم في المملكة المتحدة للحصول على المشورة، مثل قدرة أولئك الذين يدافعون عن أعمال الصلب آزوف ستال في ماريوبول، على البقاء على اتصال إلكتروني مع المخابرات الأوكرانية طوال الحصار الذي استمر خمسة أسابيع في نيسان/ أبريل وأيار/ مايو، إلى عدم الكفاءة الروسية. على سبيل المثال، ثبت أنّ إهمال القوات الروسية للمهام الصغيرة الأساسية، مثل نفخ إطارات الشاحنات بشكل صحيح، كان مكلفًا للمجهود الحربي الروسي.

ومع استمرار الحرب، فمن غير المرجّح أن يكون الضباط والجنود الروس الجدد الذين أرسِلوا إلى أوكرانيا أفضل استعدادًا وتجهيزًا، أو أن يكون أداؤهم أفضل، من أولئك الذين يحلّون محلهم. يمكن للتهديدات النووية أن تأتي بنتائج عكسية بسهولة: إذا كانت روسيا “ستذهب للنووي”، فقد تخسر حلفاءها المتبقين، وتخطئ في قياس اتجاه الرياح وتنجرف عائدة مرة أخرى إلى الأراضي الروسية، أو تجد نفسها في حالة حرب مباشرة مع تحالف شمال الأطلسي (ناتو) القادر (حتى من دون أسلحة نووية) على إلحاق دمار هائل بالأصول العسكرية الروسية. وإضافة إلى ذلك، فإن مخزونات روسيا من الرؤوس الحربية النووية التكتيكية والمتوسطة المدى، مثل كثير من الأسلحة الروسية، هي من بقايا الاتحاد السوفيتي. لقد كانت مركونة في مواقع تخزين متناثرة منذ عقود. وسيتطلب العمل على تشغيل هذه الرؤوس الحربية بذل كثير من الجهد، مع خطر احتمال حدوث خطأ بشري[30]. هناك فرصة جيدة أن تكتشف المخابرات الغربية أيضًا هذه الأسلحة نظرًا لمواقع تخزينها المعروفة، والعدد المحدود من الوحدات القادرة (على الورق) على التعامل مع هذه الرؤوس الحربية وإطلاقها، ومسافات النقل إلى مسرح الصراع التي قد تكون مشمولة. كان الموضوع الأساسي للهجوم على أوكرانيا هو الفجوة الهائلة، بين ما يريد بوتين وقواته القيام به، من ناحية، وما يمكنهم القيام به، من ناحية أخرى. الطموح لا يعني القدرة.

جيش أوكراني متجدد

قبل بضعة أعوام فقط، كان الجيش الأوكراني نفسه يواجه تحديات هائلة. تم إطلاق برنامج إصلاح طموح في عام 2006، لكنه فشل وسط عدم الاستقرار السياسي والفساد وعدم كفاية الموارد التي استهلكها التضخم والأزمة المالية العالمية عام 2008. كان هذا الإصلاح الشامل من أعلى إلى أسفل سيّئًا أيضًا: كانت أوكرانيا تسعى جاهدة لإنشاء قوة احترافية بالكامل، تتمتع بأحدث التقنيات والقيادة والسيطرة المتقدمة في تحدٍ للقيود المؤسسية والتمويلية. هزَّ عدوان موسكو عام 2014 على شبه جزيرة القرم ودونباس السلطاتِ، وأبعدها عن هذا الحلم، إلى الدفع من أجل تغيير سريع في القوات المسلحة الأوكرانية. في عهد الرئيس بيترو بوروشينكو (2014-2019)، خضع إصلاح الصناعة البحرية والدفاعية للاقتتال الداخلي والاختلاس، لكن إنشاء قيادة قوات خاصة مستقلة تضم أربعة آلاف جندي كان ناجحًا.

أظهرت أحداث عام 2014 أن هناك حاجة إلى أعداد كبيرة من الجنود للدفاع عن أوكرانيا ضدّ روسيا. ألغِيت المسودة في عام 2013، وأعيدت في عام 2014. وبشكل أكثر ابتكارًا، أصبحت القوات المسلحة الأوكرانية أيضًا جيشًا مجتمعيًا. ناشدت الحكومة التي تعاني ضائقة مالية المجتمعَ المدني، والشتات الأوكراني الكبير في جميع أنحاء العالم، والناس العاديين، للمساعدة في تمويلها والانضمام إلى صفوفها. ظهرت منظمات جديدة “لتجهيز الجيش الأوكراني وتوحيده وحمايته وتحسينه في أقرب وقت ممكن”، ولتوفير المعدات العسكرية التي تشتد الحاجة إليها، حيث شكلت تبرعاتهم (4) في المئة من ميزانية الدفاع الأوكرانية في عام 2015[31]. ومن التغييرات المهمة الأخرى التي خففت جزئيًا من نقص القوى العاملة في القوات المسلحة إنشاء كتائب المتطوعين التي ضمّت بالفعل بحلول عام 2014 أكثر من عشرة آلاف مقاتل. وبينما أثارت بعض المخاوف الانضباطية، فقد أثبتت فعاليتها في الصراع ضد الانفصاليين في شرق أوكرانيا، ومن المرجح أن تلعب دورًا دفاعيًا مهمًا لأعوام مقبلة[32].

وأخيرًا، أرسلت الدول الغربية، بقيادة الولايات المتحدة وبريطانيا، وألمانيا أيضًا (بشكل ملحوظ)، مساعدات عسكرية فتاكة تجعل قوات كييف أكثر فعالية بشكل ملموس في ساحة المعركة. وابتداءً من منتصف تشرين الأول/ أكتوبر 2022، قدمت واشنطن حوالى 66 مليار دولار، وهو مبلغ أكبر بأكثر من أحد عشر مرة من ميزانية الدفاع الأوكرانية لعام 2021 بأكملها [33]. كانت المساعدة عالية، من حيث الكمية والنوعية، لأنها تحتوي على عناصر متطورة مثل قاذفات الصواريخ المتعددة الدقيقة (HIMARS M142) أميركية الصنع، ومدافع هاوتزر (M777) عيار 155 ملم بريطانية وأميركية الصنع، وأنواع مختلفة من الطائرات من دون طيار، وأكثر من ذلك. بين عامي 2015 وشباط/ فبراير 2022، درّب الجنود البريطانيون في الخدمة الفعلية أكثر من (22,000) مجند أوكراني في غرب أوكرانيا، من خلال برنامج يسمى العملية المدارية. وابتداءً من أيلول/ سبتمبر 2022، انضم مدرّبون، من كندا والدنمارك وفنلندا وليتوانيا وهولندا ونيوزيلندا والسويد، إلى جنود المملكة المتحدة، لتقديم تدريب سريع لآلاف الأوكرانيين الآخرين في معسكرات في بريطانيا[34]. تُعلّم البرامج صغار الضباط وضباط الصف والجنود التفكيرَ النقدي واتخاذ قرارات مستقلة في الخطوط الأمامية دون انتظار إذن من القادة الجالسين في مقرات بعيدة.

كان الجيش الأوكراني مختلفًا تمامًا عن جيش بوتين. وقد تمكنت الدولة الأصغر حجمًا من تحويل إصلاحاتها الأخيرة ومساعداتها الغربية الضخمة إلى مزايا قتالية. دفاعًا عن أراضيها، برع المتطوعون الأوكرانيون والجنود المحترفون على حد سواء، في القيادة والشجاعة والحيلة. كان الرئيس فولوديمير زيلينسكي بمثابة وحي: الأوكرانيون محظوظون، لأن لديهم شخصية واضحة التفكير وحازمة تقودهم، وتعرف أن هذه منافسة بين الديمقراطية والاستبداد. لقد جعلت الحرب الأمة الأوكرانية (التي أنكرها القوميون الروس من نوع بوتين لفترة طويلة) أمرًا لا يمكن إنكاره، وأكدت الحقيقة الأكبر، ولكن من غير السهل نسيانها، وهي أن الحرية ليست مجّانية. كما أدت معارضة الغزو إلى تقريب الديمقراطيات الغربية من بعضها البعض، كأعضاء في حلف شمال الأطلسي، الذي يضيف فنلندا والسويد إلى صفوفه. إذا استمر حلف شمال الأطلسي (ناتو) في الوقوف متحدًا خلف أوكرانيا، فسيكون لدى داوود/ طالوت (أوكرانيا) فرص جيدة للغاية، ضد جالوت (روسيا).

مجلة الديمقراطية (ترجمة مركز حرمون)