لا داعي للاحتفال، ولا حتى لإستعادة الذكرى.
سنة أخرى تمر على ثورة 17 تشرين الاول أوكتوبر العام 2019، تاركة خلفها مجددا الاحساس المؤلم بأنها لن تتكرر ولن تقوم بعد اليوم، لا بسبب خلل في الانطلاقة الاولى، أو عيبٍ في الثوار، الذين تركوها تسقط، بل لعلةٍ في التكوين اللبناني الذي لم يكن مؤهلاً لثورة، ولن يكون جاهزاً لاستئنافها..مهما تضاعفت الحاجة اليها، خلال السنوات الثلاث الماضية.
لا يمكن وضع تلك المفارقة الغربية، في أي سياق عربي، مثل الزعم ان الثورة اللبنانية كان مصيرها مشابهاً لمصير الثورات التونسية والمصرية والسورية..التي سبقتها وإنتهت الى كوارث وظواهر أسوأ من تلك التي كانت سائدة قبل الربيع العربي. في لبنان، لم تكن هناك ثورة مضادة، ولم يكن هناك عنف أو قمع أو تدخل خارجي. تلاشت الثورة في لبنان من تلقاء نفسها، وتفرق ثوارها، حتى من دون أن يتعرضوا لتحديات واختبارات جدية، توازي التحديات الخطيرة التي واجهها ولا يزال يواجهها الاشقاء التوانسة والمصريون والسوريون.
ثمة قاسمٌ مشتركٌ بين تجارب الدول الاربع، وهي أن شعوبها إرتدّت بالفعل على ثوراتها، ولو بدرجات متفاوتة من الحماس للعودة الى الماضي، أو للتسليم بما يقدمه الحاضر من وقائع مستعادة، وذلك تحت وطأة الثورات المضادة التي فعلت فعلها في تونس ومصر وسوريا، وإن يكن بنسب مختلفة من الدماء المسفوكة. لكن معدلات اليأس تكاد تكون واحدة ومنسوب الحنين واحد. وإن كانت الحالة التونسية هي الاغرب، حيث يبدو ان الجمهور التونسي بغالبيته يتخلى طواعية عن مطالب ثورته وشعاراتها، لصالح تجربة هجينة، لم يسبق لها مثيل، لا هي انقلاب عسكري أو سياسي على الثورة ولا هي إنحراف كامل عنها، يقودها رئيس جاء من المجهول ويمضي نحو الفراغ.. بخلاف التجربة المصرية التي قرر الجمهور، بغالبيته ايضاً، ان يعيد زمام الحكم الى العسكر، بدافع البحث عن الأمان والاطمئنان، من دون أدنى اتصال مع ثورته الباهرة وجدول اعمالها الذي كان متميزاً بديموقراطيته.. وبخلاف التجربة السورية التي شن فيها النظام واحدة من أشرس الحملات الامنية، وتمكن بعد استدعاء حلفاء الخارج (من لبنان وايران وروسيا)، من إستعادة سيطرته وتفكيك دولته وتفتيت شعبه، الذي بات أكثر من نصفه موزعاً بين المنافي، وبين المجاهل الاسلامية في الجزء الشمالي من سوريا.. ولن يتأخر كثيراً في قبول أي عرض للعودة الى ما قبل الثورة، مع بعض التحسينات والضمانات من النظام!
الارتداد اللبناني الى الوراء كان أسرع وأبسط..ولم يكن له أي تفسير أو تبرير، سوى ما تقدمه كتب الانتروبولوجيا وأعباء التاريخ: أمام الثورة، قبل ثلاث سنوات، كان النظام أضعف من أي وقت في تاريخه. وكانت الصراعات بين اقطابه هي الاسوأ والأعمق حتى من تلك التي سادت إبان الحرب الاهلية. وكانت المؤسسات العسكرية والأمنية حليفة الثوار بلا أدنى شك. وكانت الاحزاب والقوى السياسية التقليدية في حالة موت سريري، أو في حالة ذهول إزاء هذا الكم الهائل من الغضب، لا تملك أدوات التحليل أو التصدي لذلك المد الشعبي المفاجىء.
بعض خبثاء تلك الاحزاب قال يومها، أنها غيمة عابرة، سرعان ما تعبر سماء لبنان ولا تخلف مطراً أو أثراً. والمؤسف أنهم كانوا على حق: الجمهور اللبناني ضاع بسرعة. قيل أنه لم يتجمع أصلاً مثلما تتجمع الشعوب الطبيعية، تحت راية واحدة، غير “كلن يعني كلن”التي تعني القليل، ولا تفصح عن الكثير، ولم يلتقٍ حول منصة واحدة، ولم يتوصل الى جدول أعمال مشترك. لم يستثمر ذلك الجمهور في الفراغ الحكومي الذي تسبب به، (استقالة حكومة سعد الحريري)، ولم يستفد من إحتدام الصراع بين الرئاستين الاولى والثانية، ولم ينتظم لخوض الانتخابات النيابية الاخيرة، فكانت نتيجتها فوز ورثة الثورة بأقل من عشرة بالمئة من مقاعد المجلس النيابي، بينما كان المتوقع والمرتجى أن يحتل الثوار ربع المقاعد على أقل تقدير، ويشكلوا كتلة مانعة، وصانعة لرؤساء الحكومة والبرلمان والجمهورية.
لعله ليس مجرد إرتداد شعبي لبناني الى ما قبل فكرة الثورة، بل الى ما قبل فكرة الدولة، وما يعنيه ذلك من نكران الأصل في تكوينها: شعب لم يقدم أدلة كافية على وجوده، لا قبل ثورة 17 تشرين، ولا بعدها.
موقع المدن
Be the first to write a comment.