لعلّ تعبير «خلاف عائلي»، الذي اقترحه الشيشاني رمضان قديروف، هو الأكثر دقة في وصف تحرّك قوّات «فاغنر» نحو موسكو؛ وذلك بالمقارنة مع تعابير أخرى مثل «التمرّد» أو «العصيان» أو حتى «محاولة الانقلاب» التي شاعت في الإعلام الغربي خصوصاً. ذلك لم يمنع قديروف، بوصفه تابع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، من مسايرة سيّده في البدء عن طريق تكرار توصيف «الخيانة» الذي استخدمه الأخير ضدّ بريغوجين، وإنْ عفّ عن إدانته اسمياً.
ذلك لأنّ هؤلاء، قائد «فاغنر» يفغيني بريغوجين وأمثال قديروف والرئيس البيلاروسي ألكساندر لوكاشينكو، هم أفراد عائلة بوتينية؛ تنوس قواعد الانتماء إليها بين تقاليد المافيا في طبعتها الروسية الأشدّ انحطاطاً، وبين الخلايا الاستخباراتية في تكويناتها السوفييتية الأمّ والروسية اللاحقة التي خبرها بوتين طويلاً وتمرّس في إدارتها؛ فضلاً، أخيراً، عن منظومات اختلاط الفساد و«البزنس الثقيل»، من طراز مناجم الذهب والماس في أفريقيا والنفط والكبتاغون وتجارة السلاح في سوريا، بالمهامّ السياسية والأمنية والعسكرية.
والغرب، على مستوى قادة الدول وأجهزة الاستخبار ومراكز الأبحاث أسوة بنجوم الإعلام والتلفزة والتشاطر التحليلي، لم يكذّب خبراً في قراءة تحرّك بريغوجين من زاوية دنوّ أجل بوتين شخصياً (ليس أقلّ!)، والتلاقي العضوي بين الهجوم الأوكراني المضادّ وزحف «فاغنر» الحثيث نحو موسكو. تناسى هؤلاء أنّ بريغوجين ومرتزقته كانوا أحد أبرز أدوات سلطة الكرملين، ليس في الخارج وعلى أصعدة الاستثمار المالي والأنشطة المافيوزية فقط؛ بل أيضاً، وأوّلاً ربما، في احتياجات الداخل الروسي على غرار ما قامت به «فاغنر» من أدوار حاسمة في قمع تظاهرات الاحتجاج ضدّ سياسات بوتين، منذ سنة 2014 وحتى قبيل ساعات من اقتحام مقرّ القيادة العسكرية الروسية في روستوف، وشدّ الرحال إلى موسكو.
لا يتوجب أن يُنسى، كذلك، دور مؤسسة «وكالة أبحاث الإنترنت»، التي أنشأها بريغوجين، في تجميل صورة بوتين وطرائق الاستبداد التي يعتمدها، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، وتأجيج المشاعر القومية الشعبوية من حول مفهوم «روسيا الأمّ» وماضيها الإمبراطوري التليد؛ عدا عن أنها تولّت (طبقاً لتقارير متقاطعة وموثقة) قسطاً غير قليل من مهامّ ترقية شخص دونالد ترامب، خلال المنافسات على بطاقة ترشيح الحزب الجمهوري للانتخابات الرئاسية سنة 2016.
ثمة، إلى هذا، قراءة أبسط وأكثر جنوحاً إلى المنطق في تأويل تحرّك بريغوجين وردّه إلى سياق متسلسل ومركّب ومتكامل، قوامه السردية التالية: لقد أبلى مرتزقة «فاغنر» في باخموت بلاء حسناً فاق حصيلة الجيش الروسي النظامي، ولم يكشف بالتالي سوأة القيادة العسكرية المباشرة (سيرغي شويغو وزير الدفاع، وفاليري غيراسيموف رئيس الأركان) فحسب؛ بل القيادة العليا، في الكرملين وعند بوتين شخصياً. يُضاف إلى هذا أنّ بريغوجين هاجم «النُخب» في موسكو، التي تتنعّم وتبذّر مقابل جنود روس يعودون إلى أهلهم قتلى في صناديق الزنك. تعيّن، إذن، تقليم أظافر الرجل وربما قصّ جزء من لسانه الذي طال وتطاول، فكان القرار الحاسم (الذي يصعب أنه اتُخذ بمعزل عن بوتين) بوقف إمداد «فاغنر» بالذخائر، والذهاب أبعد إلى درجة قصف إحدى كتائبها. ردّ فعل بريغوجين لم يكن متوقعاً فقط، والحال هذه، بل كان تلقائياً وأقرب إلى الدفاع عن النفس والموقع والامتيازات.
ولأنّ من طبائع الخلافات العائلية أن تكون عابرة، قابلة للصلح، بوساطات من أهل البيت أنفسهم؛ فقد انتهى تحرّك بريغوجين إلى إقامة في بيلاروسيا، حتى ساعة حساب مقبلة؛ وأُسقطت عن أنصاره أيّ تهم جنائية، كما مُنحوا الحقّ (المكتسَب، أصلاً) في التعاقد مع الجيش الروسي النظامي؛ وأمّا أنشطة المرتزقة هنا وهناك في العالم فإنّ وزير الخارجية الروسي شخّصها على طريقته في المخادعة الفاضحة: إنهم ينتشرون بناء على طلب الدول صاحبة العلاقة.
فلا «تمرّد» أو «عصيان» أو «محاولة انقلاب»، ولا مَن يحزنون!
القدس العربي
Be the first to write a comment.