تدخل ثورة الشعب السوري، ثورة الحرية والكرامة، بعد أيام، عامها الرابع عشر، وهي الثورة التي أتت ضمن سياقات الربيع العربي، الممتدّ منذ نهايات العام 2010 وأوائل 2011، لكن هذه الثورة، وهي على أبواب الولوج في عامها الجديد من عمرها الطويل، ما زالت تعثُر في الأكم وفي الوهاد، ضمن حالةٍ مضنية من العثار الكبير، قد لا تكون مسؤولةً عنه بكليته المعارضة السورية وحدها، لكنها بكل تأكيد تتحمّل الكثير من المسؤولية، فيما آلت إليه الأمور، إذ تراكمت أخطاء كثيرة أوصلتنا إلى هذا العثار الممتد.

يتعيّن انتصار الثورات وتتقدّم نهوضاً وتخطّياً للمعوقات، بدلالة امتلاكها الأدوات المواكبة والمناسبة لحراكها، واعتمادها على المدّ الجماهيري الواسع، واختيارها تلك اللحظة المواتية، مع وجود معارضة متمكّنة وقادرة على المضي ضمن حراك الناس والإمساك بالمسؤولية القيادية لثورة الشعوب، وتمكّنها من التساوق مع أهداف الناس أصحاب المصلحة بالثورة، وامتلاكها نخباً واعية تُدرك ماهية الواقع، وتعمل على إنجاز متغيّراته موضوعيّاً وفق الظروف المتاحة والممكنة، فهل كانت المعارضة السورية بكل ألوان الطيف السياسي والعسكري والأيديولوجي قادرة ورصينة في التعاطي مع جملة المتغيّرات الوطنية السورية؟ وكذلك مع الفاعل الإقليمي والدولي؟ ومن ثم الإمساك بمسارات الحراك الشعبي والمضي معه وبه إلى مستوى التضحيات التي قدّمها الشعب السوري على مذبح الثورة الوطنية السورية؟ أم أن هذه المعارضة ما زالت تراوح في المكان، وتعيد إنتاج الأخطاء التي وقعت فيها، وحالت بينها وبين إحراز أيّ تقدّم جدّي وملموس، على طريقة الوصول إلى ما قامت جموع الناس من أجله، وهو الحرّية والكرامة وإنجاز دولة المواطنة وسيادة القانون، حيث حُرم الإنسان السوري منها عقوداً طويلة ومريرة.

نقولها بكل صراحة ووضوح: إن قوى المعارضة السورية الرسمية بتشكيلاتها كلها، وعبر ثلاث عشرة سنة خلت، لم تستطع الارتقاء في أدائها إلى مستوى الدم السوري المُراق، فقد تجاوز عدد الضحايا منذ بدايات الثورة السورية المليون، كما تخطى عدد المعتقلين منذ أواسط مارس/ آذار 2011 عتبة التسعمائة ألف معتقل، وأكثرهم مغيّبون لا تُعرف مصائرهم. كما تجاوزت نسبة الدمار للبنية التحتية في سورية 65%، بحسب تقديرات أممية، كما تخطّى عدد معوّقي الحرب المليون ومئتي ألف، بحسب دراسات بحثية، كما هُجّر أكثر من 14 مليون سوري بين نازح إلى الشمال (خارج سيطرة النظام) أو لاجئ ومهجّر قسريّاً إلى كل بقاع الدنيا. أمام هذا الواقع الصعب، بقيت المعارضة السورية في غياب عن الوعي، وفوضى في عملية إنتاج أية متغيّراتٍ جديدةٍ قد تساهم في تضميد الجراح وتحقيق بعض ما يمكن تحقيقه على خطى تضحيات السوريين. أما لماذا لم تستطع أن تكون هذه المعارضة في موقع يمكّنها من إنجاز الخطوات المطلوبة وتحقيق النقاط لمصلحتها وعلى حساب النظام السوري، فيعود ذلك إلى أسباب كثيرة، منها:

أوّلاً، راهنت المعارضة السورية منذ البدايات على العامل والدعم الخارجيين، ووضع كل الأوراق في سلة الخارج، من دون التفكير جدّياً في أن للخارج مصالحه الوطنية، واستراتيجياته النفعية، ولا يمكن أن يقوم بدور المعارضة السورية، وينجز ما عجزت عن إنجازه أو يضحّي بمصالحه من أجل بلدٍ آخر، ووطنٍ آخر، قد لا تتقاطع مصلحته مع مصالح الدولة الداعمة، حيث لم يُدرك قادة المعارضة السورية أن في السياسة مصالح فحسب، ولا يوجد اشتغال إنساني بحت من دون الانطلاق من المصالح الذاتية والوطنية لذاك البلد الصديق.

ثانياً، إضافة إلى وجود تلك الصراعات البينية المصلحية داخل بنية تشكيلات المعارضة وبناءاتها، حيث شهدنا وما زلنا نشهد محاصصاتٍ كثيرة، وتغوّل بعضها على بعض، فضلاً عمّا تقوم به فصائل المعارضة العسكرية من حروبٍ بينيةٍ للسطو على معبرٍ هنا، أو مصلحة مالية هناك، ضحاياها عشرات الشباب الذين خرجوا من أجل الوطن السوري العزيز الديمقراطي، وليس من أجل الشخصية العسكرية الفلانية، أو صاحبة النفوذ.

ثالثاً، كما أن فشل التشكيلات والمشاريع الأخرى في صفوف المعارضة غير الرسمية، التي حاولت إنجاز تكويناتٍ وتشكيلاتٍ هنا أوهناك أدّى إلى استمرار المعارضة الرسمية بكل سلبياتها جاثمة على ذؤابة الفعل السياسي المعارض، من حيث إن تلك التشكيلات الحديثة أصابها ما أصاب (الرسمية) من صراعاتٍ ومصالح وزعاماتٍ وصدأ سياسي، ونفور بيني، جعلها جميعاً غير قادرة على إنجاز البديل المعارض القوي والقادر على تحقيق الاعتراف الدولي والاقليمي.
رابعاً، علاوة على أن الصراعات والمشادّات وكذلك المناكفات الأيديولوجية بين قوى المعارضة السورية حالت دون تحقيق التوافق المبدئي على إطلاق (وبناء) العقد الاجتماعي الوطني الجامع الذي يساهم في لمّ الصفوف ويؤسس نحو مرحلة تكون قادرة على بناء سورية الوطن الديمقراطي الذي يجمع ولا يفرّق.

خامساً، تَفرّد الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، في أحيانٍ كثيرة، بل في معظمها بآرائه، ومن ثم عدم قدرته على رأب الصدع أو جمع منصّات المعارضة الرسمية في هيئة التفاوض، حيث عُطّلت إلى مدّة جاوزت الثلاث سنوات ونيفاً، ولم يلتئم شمل هيئة التفاوض العليا إلا بعد أن أصبحت بلا مقرّ لها، ولا دعم عربي، وأصبح مسار التطبيع مع النظام السوري مُنجزاً، ثم تجتمع هذه الهيئة بعيداً عن الإقليم، وبعيداً عن الوطن، وسط خلافاتٍ وانشقاقاتٍ بينيةٍ شاقولية لم تتمكّن من تجاوزها أبداً، ولا يبدو أنها قادرة على ذلك.
سادساً، كما أن المشاركة “تسسلّلاً” من بعض أطراف المعارضة في مسار أستانا (سيئ الصيت) من دون الاعتراف العلني بهذا المسار، أو قدرتها على الظهور به والمشاركة فيه، كأجسام معارضة، أوصل الحال إلى ما هو عليه، ضمن مناطق “خفض التصعيد”، وجعل اللاعب الأساسي في ذلك هو الترويكا الدولية الفاعلة، والمصالح ذاتها، روسيا وإيران وتركيا، وهو ما جعل واقع الحال في إدلب والشمال السوري مترنّحاً وقابلاً للانزياح بين فينة وأخرى.
ليس الخوض في الحديث النقدي عن المعارضة، ونحن على أبواب الاحتفاء بذكرى الثورة السورية، مجرّد جلد للمعارضة، أو جلد للذات، بقدر ما هو مكاشفة ضرورية، من منطلق أنه لا بد من التغيير في أداء المعارضة، أو حتى تخطّيها إن لم يكن من إمكانية جدّية على التغيير وإنجاز البديل الوطني الذي يعبر عن ثورة الحرية والكرامة، ويُنتج ما عجزت عن إنتاجه المعارضة الرسمية السورية، التي لم تتمكّن بعد من تحقيق أي خطوةٍ حقيقيةٍ على طريق إطلاق سراح المعتقلين السوريين، وهو الهم الأكبر، والألم المُضني لدى كل السوريين، كما تعاجزت كذلك عن التقدم قيد أنملة على أيٍّ من المسارات الأخرى.

العربي الجديد