عرفته قبل ٤٠ عاماً.. كان عمره ١٩ سنة، وأنا كذلك.
لا شيء فيه كان يوحي أنه سيكون مثقفاً كبيراً، عالمياً.. ليس فيه غرور المثقفين ولا تعاليهم ولا برودتهم ولا عنجهيتهم ولا صلفهم ولا نرجسيتهم ولا قسوتهم المغلفة بالحرير.. ولا حركاتهم.

لم يكن يستخدم أياً من “عدة النصب” التي يستخدمها المثقفون.. لا بايب ولا شال حرير ولا قبعة غيفارا ولا شابو، ولا أناقة مفرطة ولا قمصان فرنسية ولا تصفيف شعر.. ولم يكن يستخدم كلمات المثقفين المبهرة، لا أسماء ولا تعابير أجنبية، ولا مصطلحات معقدة، ولا جمل جاهزة، ولا ادعاءات من أي نوع. لم يكن فيه أي من صفات المثقف النجم. ولا بأي قدر كان. حتى اسمه، خالد خليفة عبد الرزاق، اسم معتاد وشعبي وشائع.

ومن المفارقات أنه كان معنا على نفس مقاعد الدراسة، زميل آخر، مشروع مثقف كان (ولا زال) فيه كل الصفات القبيحة سابقة الذكر، ويستخدم كل عدة النصب الثقافي بأقصى مبالغة ممكنة، باللباس والاكسسوارات من الحذاء حتى النظارة والعطر، والألفاظ والنظرات وطريقة التعامل، وهو انتهى مثقفاً موظفاً عند أمير من أعفن مافي الكوكب الأرضي. وربما كان هذا الكائن أحد الأسباب الأولى التي تراكمت لاحقاً حتى جعلتني أنفر من المثقفين (وعبيدهم)، وأبالغ في السعي لثقب غرورهم، ودوس مقدساتهم.

لم يكن خالد من مجموعة الطلاب المتفوقين التي كنت أنتمي إليها، وما أظن أن التفوق الدراسي والفوز بالمراكز الأولى بنهاية العام الجامعي (وقبلها الثانوي، حيث كنا أيضاً بنفس المدرسة) ما أظنه كان من اهتماماته أبداً. حتى سلامه علينا كان مع ابتسامة تجمع المودة والبساطة والذكاء، ورسالة كانت صعبة التفسير حينها. لكنني الآن يمكن أن أفسرها بأنها إشفاق منه على استماتتنا للوصول إلى التفوق الدراسي.

تخرجنا، ثم افترقنا ٢٠ عاماً درت فيها أنا العالم، وهو قابع في سورية. كان الانتقال من حلب لدمشق، أكبر نقلة مكانية قام بها في حياته، بعد الانتقال من ريف حلب إلى حلب.
٢٠ عاماً جعلته مثقفاً معروفاً، ثم عالمياً، لكنها لم تغير فيه أي شيء. كان عمره ١٩ فصار ٤٠ ، ورأسه غزاه الشيب، لكنه ظل هو هو.. شكلاً ومضموناً وسلوكاً.

عدت بعد عشرين عاماً والتقينا في دمشق، قال لي : أنا صرت روائي. اقرأ روايتي مديح الكراهية ففيها وصف لما عشناه في حلب أيام الأحداث (أحداث الثمانينات). وقال : أنا أعرف أنك صرت صحفياً وأتابع عملك، أنت موجود في كتابتي، عندما تحدثت عن الصحفيين في رواية “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” كنت أصفك أنت.

بخلاف المثقفين، يقبل خالد خليفة الناس كما هم، لا يلقي عليهم مواعظ، لا يحاول تعليمهم، ولا تغييرهم، ولا حتى مجرد التأثير بهم. لا يهتم كثيراً بأن يسمعوه، يهتم أكثر بأن يسمعهم، ويمتص كل ما في نفوسهم.

عدد أصدقاء خالد كبير جداً، كبير إلى درجة تجعلك تظن أن كل السوريين أصدقاء حميمين له. صداقته سهلة، لدرجة أنها لا تحتاج إلا لدقائق، وأحياناً لثواني، لتولد، ولا تموت بعدها أبداً.

صدق وتواضع وبساطة خالد خليفة تجعلك تتكلم أمامه على سجيتك مطلقاً، لكن عندما تجد نفسك في شخوص رواياته، تصبح حذراً، فهذا الرجل خطير. إنه ينفذ إلى روحك وأعماقك بسهولة، ويأخذ منها ما يشاء، وينقله لكل الناس.

لم أبق إلا قليلاً في دمشق، وعدت للهجرة القسرية، وافترقنا للمرة الثانية قبل ١٣ عاماً ولم نلتقي بعدها أبداً. إلا عبر الفيسبوك، حيث صار خالد خليفة مندوب ملايين المهجرين السوريين، مندوبهم في سورية، يكتب على الفيسبوك ما يجعلنا نلمس قلب البلاد التي غادرناها بأجسادنا، وظلت أرواحنا فيها.

ليس لخالد مواقف استعراضية حادة ضد النظام الإبادي الطائفي الأسدي، لكنه في عقله وعواطفه وكتاباته أكثر شخص معارض ومعادي للنظام، ومن أشد الناس هدماً للثقافة التي يريد النظام أن يفرضها على السوريين، وهو الشاهد الرئيسي على عذابات السوريين، وثقها من قلب عذاباتهم، وليس من شرفة تطل عليها.