شطبت عبارة “يريد السوريون إقامة دولة علمانية”، ولم تعد موجودة في الرسالة التي وجهتها شخصيات سورية (كثير منها من السويداء) بمناسبة ذكرى عيد الجلاء (١٧ نيسان) إلى قادة العالم. وبقي هدف الثورة السورية كما كان منذ ١٣ سنة : إقامة الدولة “الحرة المدنية الديمقراطية”، وليس “العلمانية”.

فقبل إرسال الرسالة (سماها البعض وثيقة المبادئ الخمسة) بقليل، تسرب نصها الذي يتحدث عن الدولة العلمانية، فحصل جدل عام ساخن، وانسحبت أسماء هامة، واتهمت منظمي الوثيقة-الرسالة بإضافة عبارة الدولة العلمانية دون علم الموقعين. فتم شطب عبارة “الدولة العلمانية”، وأرسلت الرسالة إلى الأمناء العامين للأمم المتحدة والاتحاد الأوربي والجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي، وهي تتحدث عن أن السوريين يريدون دولة “ديمقراطية” فقط.

فما هو الفرق بين الدولة “الحرة المدنية الديمقراطية” والدولة “العلمانية” ؟

* الدولة الحرة المدنية الديمقراطية دولة لا يمكن أن تكون مستبدة أو ديكتاتورية أبداً، لا مع كل المواطنين، ولا مع بعضهم. لا تقصى أي مواطن أو حزب من النشاط السياسي، ولا تقصي أي شريعة أو تشريع من أن يكون من ضمن القوانين التي يمكن أن يسنها نواب الشعب المنتخبون.

إنها دولة مثل ألمانيا وماليزيا وبريطانيا وكندا وتونس الثورة، وسورية القوتلي.. دولة تقبل أن يشارك في العمل السياسي فيها حزب ديمقراطي مسيحي، وحزب ديمقراطي مسلم، وحزب ديمقراطي علماني، ولا يحظر فيها حمل الرموز الدينية، ولا الرموز غير الدينية، ولا التعليم الديني، ولا التعليم غير الديني، ويسن نواب الشعب المنتخبون القوانين بكامل الحرية، ولهم حق الأخذ (والترك) من كل التشريعات، بما في ذلك الشريعة الإسلامية، بالقدر الذي يريدون، ولهم باستمرار وبلا حدود حق تغيير ما أخذوه.

* أما الدولة العلمانية، فلها ٣ احتمالات، وليس احتمال واحد :

١- يحتمل أن تكون الدولة العلمانية دولة حرة مدنية ديمقراطية، وفق المواصفات المذكورة آنفاً.

٢- ويحتمل أن تكون الدولة العلمانية دولة مستبدة (مثل الصين وروسيا وكوبا وكوريا الشمالية وكل الأنظمة الشيوعية وغالبية الأنظمة العسكرية وكثير من الملكيات الوراثية..). وعدد الأنظمة العلمانية المستبدة بالماضي والحاضر، يعد بالمئات (وهو أمر يرفض العلمانيون السوريون الاعتراف به، بزعم أن العلمانية تتطلب بالضرورة الديمقراطية والعدالة والمساواة.. وكل ما هو جميل).

٣- ويحتمل أن تكون الدولة العلمانية ديمقراطية مع سلوك إقصائي لفئة من الشعب، ولفكر محدد (مثل فرنسا التي يمنع فيها تشكيل حزب ديمقراطي مسيحي، ويمنع نواب الشعب من سن أي مادة قانونية مستمدة من الدين، ويمنع وضع الرموز الدينية في المؤسسات العامة..).

لقد تم اختيار عبارة “الدولة الحرة المدنية الديمقراطية” في الثورة السورية، وفي كل تحرك معارض للنظام قبل الثورة، وفي كل ثورات الربيع العربي، لأن هذه العبارة لا تسمح بنفاذ أي نظام استبدادي أو سلوك استبدادي أو إقصائي بأي شكل من الأشكال، وبأي حال من الأحول.

ولأن الثورة السورية قامت لإسقاط نظام الاستبداد الدموي، كان تركيزها الشديد هو على اقتلاع الاستبداد من جذوره، وعدم ترك أي منفذ لعودته بأي قدر كان. وتجنبت الثورة السورية استخدام مصطلح الدولة العلمانية عن عمد وبعد جدل طويل ومرير مع العلمانيين للأسباب التالية :

١- عدم وجود مفهوم واحد، ولا تطبيق واحد، للعلمانية (في بريطانيا وألمانيا يسمح بتشكيل حزب ديمقراطي مسيحي، وبالرموز الدينية، واللحية، والحجاب.. ويشار للدين في الدستور، دون أن يعتبر هذا خرقاً للعلمانية، بينما يعتبر كل هذا في فرنسا انتهاكاً خطيراً للعلمانية، يعاقب عليه القانون).

٢- الحساسية البالغة عند كثير من السوريين تجاه مصطلح العلمانية، لأن النظام البعثي نظام علماني (وهو أمر يقر به العالم أجمع، بما في ذلك فرنسا مبتكرة العلمانية، وينكره العلمانيون السوريون بشدة لأن الإقرار به يجرح منظومتهم الفكرية، ودعايتهم)، ومن غير المعقول الثورة على نظام علماني، لإقامة نظام علماني.

جزء كبير من الثوار عانوا اضطهاداً دينياً من النظام الأسدي، باسم العلمانية، ودفعوا ثمناً باهظاً، بسبب عداء النظام لدينهم، ومن المحال إقناعهم بأن يحل نظام معاد للدين (أو يمكن أن يكون معاد للدين) مكان النظام المعادي للدين الذي دفعوا أنهاراً من الدماء للخلاص منه (ولم يخلصوا منه بعد).

٣- الخوف من ازدواج أهداف الثورة، ودفع البعض لتفضيل وتقديم هدف العلمانية على هدف الحرية أو الديمقراطية (الأمر الذي حصل في مصر، حيث انحازت الغالبية الساحقة من العلمانيين إلى العلمانية على حساب الديمقراطية، وأيدت بدون تحفظ نظاماً عسكرياً متوحشاً قتل التجربة الديمقراطية الوليدة في مصر، ويتكرر الأمر الآن في تونس حيث يندفع العلمانيون نحو تأييد نظام يقتل الديمقراطية ويبقي على العلمانية).

إذا صار هدف الثورة السورية هو “دولة ديمقراطية علمانية ” فإن هناك خطراً حقيقياً تدعمه شواهد كثيرة، بأن يتم تقديم العلمانية على الديمقراطية، وخطر أشد تدعمه شواهد كثيرة، بأن يصبح هدف الثورة هو إقامة الدولة العلمانية فقط، ولو مستبدة.

٤- فكرة العلمانية الأساسية، قائمة على الإقصاء والحظر والمنع والإبعاد (إبعاد الدين والمتدينين عن العمل السياسي، وعن التشريع)، وفكرة الثورة الأساسية هي الحرية، وشعار الثورة السورية الأساسي هو “سوريا بدها حرية”.

٥- من غير المعقول ولا المنطقي أن توصف الدولة بالعلمانية، وبالتالي يمنع نواب الشعب من أن يكون ولا ١ ٪ من القوانين التي يسنونها مأخوذة من التشريع الإسلامي، في وقت تريد نسبة لا يستهان بها من الشعب السوري ومن الثوار أن تكون القوانين كلها وبنسبة ١٠٠٪ مستمدة من التشريع الإسلامي.

سيكون بحثاً متعمداً عن الصدام والمواجهة والعداء والانقسام، عندما يكون ملايين من الشعب السوري (من الملايين الثائرة والمضحية) يطالبون بأن تكون القوانين وبنسبة ١٠٠٪ مستمدة من التشريع الإسلامي، ويأتي بعض المنظرين وبعض المنضمين للثورة بعد ١٢ سنة من تفجرها، ليقولوا لهم ستكون نسبة ما يمكن أن يؤخذ من التشريع الإسلامي صفر بالمئة، صفر ولو فزتم بكل مقاعد البرلمان.

النص على العلمانية في الدستور، أو وصف الدولة بأنها علمانية، يحمل إمكانية منع نسبة لا يستهان بها من الشعب والثوار والنشطاء والمعذبين والمضحين، منعهم من دخول العمل العام، ومن العمل السياسي، وإبعاد الإسلام عن خيارات واضعي القانون .

بالمقابل فإن الدولة الحرة المدنية الديمقراطية لا تقصي العلمانيين ولا العلمانية ولا بأي قدر كان. في الدولة الحرة المدنية الديمقراطية يمكن للعلمانيين الدعوة للعلمانية، وتشكيل أحزاب علمانية، وإذا فازوا بالانتخابات يصبح البرلمان ذو أغلبية علمانية، ويصدر قوانين علمانية واجبة التطبيق من قبل الجميع، وتتشكل حكومة علمانية، تتبع سياسات علمانية.

بوضوح مطلق :

– في الدولة الحرة المدنية الديمقراطية يجوز تشكيل حزب ديمقراطي إسلامي، وحزب ديمقراطي مسيحي، وحزب ديمقراطي علماني، ويجوز مشاركة المتدينين (وغير المتدينين) في الانتخابات، ويجوز فتح مدارس إسلامية (ومدارس مسيحية ومدارس علمانية)، ويحق لنواب الشعب المنتخبين أن يسنوا قوانين مأخوذة من الشرع الإسلامي كلياً أو جزئياً (أو لا علاقة لها بالشرع كلياً)، ويحق لهم تغييرها باستمرار، ولا يمنع حجاب (ولا يفرض) ولا تمنع اللحية (ولا تفرض)، ولا يفرض الاختلاط (ولا يمنع) على من لا يريده، ولا يفرض على البنات لباس سباحة معين في المدرسة والشاطئ (ولا يمنع)..

– أما في دولة علمانية غير ديمقراطية فلا يجوز كل ذلك. وفي دولة ديمقراطية علمانية على النمط الفرنسي، وهي أقصى العلمانية أو العلمانية المتطرفة أو العلمانية المعادية للدين (وغالبية العلمانيين السوريين يريدون نمط العلمانية الفرنسية أو يمتنعون عن توضيح أي نمط علمانية يريدون) فلا تسمح لا بحزب ديمقراطي مسيحي، ولا حزب ديمقراطي إسلامي، ولا بسن قانون مأخوذ لا كلياً ولا جزئياً من التشريع الإسلامي، حتى التشريع الذي لا علاقة لها بالعبادات والدين، وينظم فقط المعاملات. بين الناس، وتمنع الحجاب وتفرض على الفتيات في المدارس السباحة بثياب البحر مع الصبيان، وتتدخل الشرطة لجر سيدة من على شاطئ البحر إذا لبست ثوباً لا يظهر غالبية جسدها.

قضية هدف الثورة حسمت، منذ اليوم الأول للثورة، قبل ١٣ عام، بأنه اسقاط النظام بكل السبل المجدية (وليس فقط السلمية) لإقامة دولة حرة مدنية ديمقراطية، حيث رفعت ٣٠٠ ألف مظاهرة شعار “سورية بدها حرية”، ومنذ ٥ سنوات بدأ المحتل الروسي لسورية يطالب بدولة علمانية، لكن شعار العلمانية لم يرفع في سورية أبداً، إلا بعد حراك السويداء عام ٢٠٢٣ الذي يبدو في خطاب المروجين له، إدانة لثورة ٢٠١١ وتأنيب لها، أو تراجع واعتذار عنها، أو ثورة مضادة لها.

وفي هذا استعجال وهوج وخفة مؤسفة، فحراك السويداء لم يحرك مكونات أخرى (خاصة المسيحيين والعلويين)، ولم يمتد لمناطق أخرى، ولم يسقط النظام ولا الاحتلالات الأجنبية لا في سورية ولا حتى في السويداء، التي هي أصغر المحافظات السورية. في السويداء لوحدها ١٥ قاعدة عسكرية أجنبية (٣ قواعد روسية + ٤ قواعد إيرانية + ٨ قواعد لحزب الله اللبناني)، لم يستطع الحراك أن يخلص السويداء ولا من واحدة منها، ولا يوجد أي مؤشر على أنه سيستطيع فعل ذلك في المستقبل المنظور (للأسف الشديد).

تجربة رسالة ١٧ نسيان (أو المبادئ الخمسة) هي الأولى منذ ١٣ عام، ورغم أنها فشلت فهي لن تكون الأخير ، فعلمانيون سوريون (وآخرون مختبؤون وراء العلمانية) يرون في حراك السويداء هدية من السماء هبطت عليهم فجأة لإنجاز ما ظنوا أن إنجازه بات مستحيلاً : استئصال الإسلام من الحياة العامة والتشريع والحياة السياسية في سورية.

لقد قتل مليون من الأغلبية السورية وشرد وعذب ملايين لأجل الحرية، وليس العلمانية، وقهرهم وإجبارهم على وضع العلمانية فوق الدستور وفوق الدولة يخلق بذرة صراع مرير يضاف للصراعات القائمة. صراع عبثي وغير مجدي، لأن اجتثاث الإسلام من سورية هو المستحيل عينه.

والزعم أن لا حرية ولا ديمقراطية إلا بعلمانية الدولة والدستور، سيدفع كثيراً من السوريين إلى رفض الديمقراطية والعلمانية معاً، رغم شوقهم وحاجتهم الكبيرة للحرية والديمقراطية.

ورفع شعار علمانية الدولة والدستور، يخدم التيارات الرافضة للديمقراطية، ويعطيها حجة بأن العلمانية لا الديمقراطية هي هدف العلمانيين. تقول هذه التيارات أن العلمانيين يقبلون الديمقراطية والانتخابات فقط إذا أوصلتهم إلى السلطة، أما إذا لم توصلهم لها فإنهم ينقبلون عليها ويدعمون الحكم العسكري ويرسلون خصومهم السياسيين للسجون والمشانق، فلماذا ننتظرهم ولماذا لا نسبقهم لفعل ما سيفعلون؟

لقد سمعت العبارة التالية عدد لا يحصى من المرات وأنا أبشر بالدولة الحرة المدنية الديمقراطية في صفوف الثوار والنشطاء السوريين : تريدنا أن نموت بمئات الألوف ونشرد بالملايين، لتجري انتخابات إذا فزنا بها، يقع انقلاب عسكري علماني يعيدنا للسجون والمشانق كما حصل في مصر والجزائر وتونس وليبيا.. من كل عقلك يا أستاذ ؟

لقد كان اختيار الدولة الحرة (المدنية الديمقراطية) هدفاً للثورة السورية، قمة الحكمة والمصلحة والتسامح والانفتاح والتحرر، وسيكون تحويله إلى الدولة العلمانية، قمة الحماقة والاستبداد والأذى، وقد يؤدى إلى أن لا تعرف سورية الديمقراطية.. أبداً.