بالرغم من رد الفعل السلبي تجاه تطبيق “تيك توك”، المنتشر بين المثقفين السوريين، الذين يفضلون “فايسبوك”، أو “يوتيوب” لتبادل الآراء والنقاشات حول المواضيع السياسية، إلا أن قسماً كبيراً من متعاطي السياسة، وجدوا في “تيك توك” ضالتهم المنشودة. إذ تحولت المنصة خلال سنوات قليلة إلى المنصة رقم واحد بالنسبة للسوريين الذين رأوا في التطبيق الملجأ المجاني والميسور لإيصال رسائل مختلفة ومتباينة تماماً، مثلما تتباين اتجاهات سكان الكانتونات الجغرافية المتعددة السلطات والأفكار.
اختلاف خوارزمية الـ”تيك توك” نوعاً ما عن خوارزميات منصات السوشال ميديا الأخرى، وطبيعة التطبيق وخاصية البث المباشر، جميعها تشكل فرصة للمئات من المشاهير، والإخباريين، والسياسيين، والعسكر، لعرض آرائهم والترويج لها، بل وفرضها في أحيان كثيرة، كآراء أحادية الفكر. لكن ذلك لم يحل دون الانزلاق الى خطاب كراهية، وترويج للتطرف والانقسام العرقية والاثني.
منصات صفراء.. وأخرى متطرفة
تنشط منصة “ويكيليكس” في “تيك توك” في مهاجمة الفصائل السورية المعارضة، وفي مقدمها “هيئة تحرير الشام”، و”الائتلاف الوطني”، و”قوات سوريا الديمقراطية”. ومن خلال عرض أخبار قصيرة ومثيرة في الوقت نفسه، تحظى المنصة التي يديرها شخص مجهول، على آلاف المشاهدات، فيمكن أن يحصل المقطع الواحد في بعض الأحيان على أكثر من نصف مليون مشاهدة.
لا تختلف منصة “ويكيليكس” عن نموذج الصحافة الصفراء، فهي تنشر مانشيتات عريضة، تهاجم الجميع وتضرب بيد من حديد، وتغيب عن أخبارها عناصر كثيرة مثل التوثيق واللغة المعلوماتية المهنية. ويمكن اعتبارها نموذجاً للمنصات الشعبوية التي يتحدث عنها المثقفون السوريون، ولأجلها يرفضون تنزيل التطبيق على هواتفهم النقالة.
لكن هذه المنصة لم تعد الأسوأ، في حال مقارنتها بمنصة تدعى “العمل في ساحة الحق”، التي تنشط بشكل علني عبر التطبيق، وتروج لأفكار وأخبار تنظيم “داعش”، حيث تنال سوريا نصيباً وافراً من أخبار وتغطيات المنصة، باعتبارها “ولاية الشام”، وفقا لأدبيات التنظيم.
وتنشر المنصة الداعشية أخبار “جنود الخلافة” وتحركاتهم الميدانية مثل أسر أو قتل “عناصر من الجيش النصيري المرتد” أو إحراق “المجاهدين دراجة نارية واغتنامهم بندقية”، أو استهداف “جنود الخلافة لعنصرين من “بي كي كي” المرتدين كانا يستقلان آلية في بلدة الحصان” في “ولاية الخير”، وهو الاسم الذي يطلقه التنظيم على محافظة دير الزور السورية.
بروباغاندا
بشكل شبه يومي، يظهر مدير مركز “الدراسات الاستراتيجية التركمانية” عثمان صالح، على منصته الشخصية في “تيك توك”، مستخدماً خاصية البث المباشر، التي يبدو أنها قد أثبتت فاعليتها، إذ لا يقل عدد متابعيه عن ألف شخص، في حين لا يخلو حديث صالح من الاستفزاز السياسي، بحق معارضي فصيله “السلطان مراد” الذي يلم شمل مقاتلي الأقلية السورية التركمانية.
المواضيع المختلفة التي يتكلم عنها صالح، تتمحور معظمها حول الحليف التركي ودوره في دعم الثورة والإشراف على ازدهار المناطق المحررة في الشمال الغربي لسوريا. وينطلق صالح من أصوله التركمانية لحشد مناصريه المتماثلين في الأصل، وهو يخاطبهم بـ”جماعتنا” ويستضيفهم عبر البث المباشر، بينما يقفل خاصية التعليقات لأسباب مجهولة.
ويهاجم صالح شخصيات تروج لـ”قوات سوريا الديمقراطية” التي يعارضها بشكل مكشوف وعلني، وقد يصل به الأمر إلى السباب أو التفوه بعبارات قاسية، في بث لفكر سياسي أحادي، غير قابل لأي تنازلات، وغير مستعد لفكرة التصالح مع الآخر، بأي حال من الأحوال.
أكراد سوريا
مقابل البروباغندا المؤيدة لتركيا التي يروجها عثمان صالح، ينشط الإعلامي سمير متيني المحسوب على الطرف الكردي المناهض لما يسميه “الاحتلال التركي”. ولأن متيني يسعى لاستقطاب شرائح متعددة من السوريين، فهو يوجه انتقاداته اللاذعة للنظام السوري بالدرجة الأولى، ولتركيا والمعارضة السورية بالدرجة الثانية، وفي بعض الأحيان ينتقد بعض السياسات والإجراءات التي تتخذها “قسد”.
لا يخلو أي ظهور لمتيني من دون مهاجمة تركيا، التي “احتلت عفرين وشردت الأكراد”، لكن ما يريد متيني قوله سياسياً، لا يتعلق بتركيا فقط، فهو ذو صلات جيدة ببعض الشخصيات المعارضة مثل الشيخ الدمشقي ورئيس الائتلاف السوري الأسبق معاذ الخطيب، ومن هذا المنطلق يهاجم النظام بشراسة. وفي غضون كل ذلك، يروج لحلول سورية مقبلة، وقرارات دولية تتعلق بانفراجة تخص الشأن السوري. كل هذه القضايا تؤمن له مزيداً من المتابعين، الذين غالباً ما يجدون في حديثه المسترسل السهل، وإتقانه لفنون “تقسيم الكلام”، ملاذاً يشعرهم ببعض الراحة من متاعب الحرب وتفاصيلها اليومية.
تضليل سياسي
الوقوع في فخ التضليل يكاد يكون سمة بارزة لمتعاطي السياسة عبر تطبيق “تيك توك”، إذ لا يتطلب الأمر سوى عناوين براقة ومعلومات حصرية مجهولة المصدر، وأحياناً يكون العنوان مختلفاً عن المضمون.
ينتقد المحلل السياسي الذي يظهر يومياً في “تيك توك” مصطفى النعيمي، بعض التجارب الإعلامية عبر التطبيق على اعتبار أن “لها دوراً كبيراً في عمليات التضليل الإعلامي من حيث المضامين المقدمة التي تفتقر إلى أدنى معايير القراءة الأكاديمية المتوازنة للأحداث، وذلك من خلال دغدغة مشاعر الجمهور وإسماعهم ما يرغبون بسماعه، بعيداً عن الوقائع والمتغيرات الدولية”.
ويضيف خلال حديث لـ”المدن” أن “بعض الإعلاميين والسياسيين يستثمرون المضامين الجدلية التي تبحث عنها الغالبية العظمى من السوريين، أو استغلال مظلومية فئات محددة من الشعب لطرح مشاريع لن تلقى النور مطلقاً، نظراً لأنها تفتقر إلى أدنى معايير القراءة الاستراتيجية، وتقرأ المؤشرات بطريقة شعبوية”.
ويعتقد النعيمي أن تجارب السوريين في تطبيق “تيك توك” سياسياً ما زالت في طور البناء “نظراً لأن الغالبية العظمى تمتلك تصوراً بأن التطبيق بشكل عام لا يرقى الى مستوى تناول الملفات السياسية الهامة”. لكن مع اقتحام هذه النافذة من قبل الكثير من الباحثين يعتقد بأنه “بات من الملح جداً متابعتها والتفاعل معها لحظياً”.
موقع المدن
Be the first to write a comment.