ما بات اليوم يُصنّف تحت تسمية «الحركة المدنية الديمقراطية»، العامّة والتعميمية والغائمة التي لا تخلو أيضاً من غموض، قد تمثّل/ لا تمثّل المحتوى الفعلي للقوى المعارضة في مصر؛ إلا بمعانٍ نسبية في الحالتين، وليس بالضرورة على أصعدة ملموسة تعكس مقادير كافية من مطالب شعبية سياسية واجتماعية ومعيشية، أو حتى تلك الأغراض ذات الصلة بمفاهيم المواطنة والحريات المدنية والفضاء العام.

هي، إلى هذا، تضمّ 12 حزباً يُحتسب على المعارضة ضمن هذا المعيار أو ذاك، خصوصاً على مستوى مؤشر بارز واضح هو عدم اندراجها في تكوينات النظام المختلفة؛ وقرارها بالمشاركة في الحوار، الذي دعا إليه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي منذ نيسان (أبريل) 2022، جاء نتيجة تصويت أجرته الأحزاب المعنية بالإضافة إلى 10 شخصيات عامة، وكانت نتيجته الموافقة بأغلبية 13 مقابل اعتراض 9. صحيح أنّ نسبة الموافقين ليست عالية، ولكن من الإنصاف القول إنّ الإجراء سلوك داخلي يصحّ أن يوصف بالديمقراطي؛ ثمّ من الإنصاف أيضاً، واستطراداً، منح هذه الأحزاب فضيلة الشكّ في إمكانية الخروج من الحوار بخلاصات من طراز ما، لا تتساوى على أقلّ تقدير مع حصيلة خفّيْ حنين الشهيرة.

شتان مع ذلك، أو بسبب ذلك تحديداً، بين المنطق العام الذي استندت إليه الحركة المدنية، وبين سلوك السلطة في الكواليس علانية أو حتى من خلال الخطاب الذي يعتمده أمين مجلس أمناء الحوار ضياء رشوان (نقيب الصحافيين الأسبق!)؛ وشتان، أكثر وأخطر، بين فراغ جلسات الحوار من أيّ تنفيذ فعلي لمطالب تمهيدية أولى مثل الإفراج عن سجناء الرأي ورفع القيود عن الحريات العامة، مقابل امتلاء الجلسات بكلام فضفاض سبق أن أطلقت عليه السخرية الشعبية المصرية صفة الـ»كلاملوجيا».

هذه واحدة من سلسلة مجازفات تكتنف الحوار، أو لعلها وضعته أصلاً ضمن أُطُر جوهرية لا يستقيم من دونها أيّ حوار تفاوضي حول سيرورة عريضة قيل إنها يمكن أن تطلق «عملية سياسية تقر الحق في التعددية والتنوع باعتبارها مصدرا للقوة وتأكيدا لحقوق المواطنة والمشاركة».

وهذه، من جانب آخر، مجازفة كفيلة بوضع سلوك المعارضة في الماضي القريب على محكّ المساءلة النقدية العميقة، الواضحة مع ذلك وغير المعقدة أو الشائكة، ضمن المعادلة التالية: غالبية القوى المعارضة المشاركة في الحوار صفّقت لانقلاب السيسي في تموز (يوليو) 2013، بل ورفضت (بإباء مجاني، لا تُحسد عليه!) أيّ توصيف انقلابي لخطوات الإطاحة بأوّل رئيس منتخَب ديمقراطياً في تاريخ مصر، وإعادة الجيش إلى مؤسسات الرئاسة والأمن والسياسة والاستثمار الاقتصادي والفساد والإفساد والاستبداد ومهازل مجالس الشعب والتعديلات الدستورية التي تُبقي السيسي في السلطة حتى 2030، أو إلى أبد الآبدين.

وكلّ هذا تحت ذريعة وحيدة، أو تكاد، هي الخلاص من جماعة الإخوان المسلمين؛ الأمر الذي يبدو اليوم أحد أقسى مفارقات التاريخ، لأنّ ما خوّف المعارضين من أخطاء الجماعة وحماقاتها يبدو اليوم ألعوبة أطفال بالقياس إلى ما ارتكبته وترتكبه أجهزة السيسي… بحقّ عدد كبير من أولئك المهللين للانقلاب أنفسهم، أو حتى قبل سواهم. بمعزل، في وجهة أخرى للحكاية، عن حقيقة أنّ جلسات الحوار الوطني إنما تستهدف أصلاً تمكين القوى السياسية من حيازة الحقّ في التعبير، إلا إذا كان المتحاورون في القاهرة ينكرون على الجماعة أنها بدورها تنظيم سياسي.

يبقى أنّ بعض القضايا الأخرى التي تتناولها الجلسات لا يلوح أنها تتوخى حتى حصيلة خفّيْ حنين، أو هي أقرب إلى تدوير رحى «الكلاملوجيا» تطبيقاً للحال الشهيرة في الجعجعة بلا طحن؛ كما في السجال حول هوية مصر الوطنية، ضمن جلسات لجنة الثقافة والهوية خصوصاً. كأنّ أسئلة مصر، فرعونية أو إسلامية أو عربية أو أفريقية، هي هاجس مواطن معذّب تسحقه أرزاء الغلاء والفقر والندرة وسوء الخدمات العامة وانهيار العملة…

القدس العربي