منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية الخامسة على قطاع غزة، يعيش الكثير من الأكاديميين والحقوقيين والصحافيين والعاملين في منظمّات مجتمع مدني أو منظمات إنسانية دولية، في الغرب، المتابعين منذ عقود لمجريات الصراع في فلسطين المحتلة وللتحوّلات الحاصلة في المجتمعين الفلسطيني والإسرائيلي، كابوساً تتوالى فصوله يومياً.
ذلك أن ضراوة الحرب الإسرائيلية في شهرها الرابع، غير المسبوقة لجهة تسخير أحدث تكنولوجيا لتعميم أوسع دمار عمراني وخسائر بشرية ممكنة، ولجهة حجم المعاناة الإنسانية في فترة زمنية «قصيرة» وفي رقعة جغرافية صغيرة لم يشهد العالم له مثيلاً منذ عقود، تترافق مع تغطية إعلامية تلفزيونية غربية، لا تشذّ عنها سوى قلّة من المحطّات، غالباً ما تُغيّب الحقائق الميدانية وتنزع الأنسنة عن الفلسطينيين.
يتجلّى الأمر في اختيار الصور أو في التعليقات عليها أو في اعتماد المصطلحات غير العلمية لتوصيف الأوضاع أو في استضافة أشخاص غير اختصاصيين يكرّرون مقولات خاطئة أو في السماح للناطقين باسم الجيش الإسرائيلي بالمشاركة في البرامج الحوارية وعدم مساءلتهم الجدّية، إلا نادراً، حول الفظائع التي يرتكبها جيشهم. ويكمّل هذه التغطية غير المهنية وغير الأخلاقية، خطاب يعتمده أحياناً عنصريون من بين الضيوف، يشكّكون بكل غرور وجهل بحجم الخسائر البشرية الفلسطينية المُعلنة، أو يكرّرون أن على إسرائيل «الدفاع بقوّة» عن نفسها وسط محيطٍ (عربي) معادٍ لها. وطبعاً لا يفقه أصحاب الخطاب المذكور شيئاً بالقانون الدولي الإنساني، ولا بالسياق التاريخي المُفضي إلى الحرب الدائرة.
وليس من المستبعد أن كلّ هذا، ومثله المواقف الرسمية لمعظم الحكومات الغربية الداعمة للحرب الإسرائيلية، جعل شرائح من الرأي العام (القليلة الاطّلاع على الإعلام المكتوب) في البلدان الغربية ذاتها تستغرب مثلاً ما يقوله أمين عام الأمم المتحدة وخبراؤها ومنسّقو المنظمات الإنسانية والحقوقية الكبرى في العالم، ومثلهم الاختصاصيون الفعليون، صحافيين وباحثين وجامعيين، حول ما يجري من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وأهوال في غزة. وتستغرب أكثر أن تُقاضي جنوب أفريقيا إسرائيل في محكمة العدل الدولية بتهمة ارتكاب إبادة جماعية، وأن يكون لمقاضاتها هذه وقع هائل في أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، حيث تابع عشرات الملايين مجريات جلسة المحكمة التاريخية في لاهاي في 11 و12 كانون الثاني/يناير 2024، وجلسة إعلان المحكمة لإجراءاتها المؤقتة في 26 من الشهر نفسه.
لكنّ ما ورد لا يُعفي القادرين على التمييز والمسؤولين في المؤسسات الأكاديمية والبحثية والاستشفائية والنقابات الصحافية من مسؤوليّتهم الأخلاقية والمواطنية. العكس هو الصحيح.
فكيف يمكن لأجسام مهنية مثلاً، أن تلوذ بالصمت أو تتحدّث بخجل عن مجازر تستهدف زملاء وزميلات في المجال المهنيّ ذاته؟ أكثر من 200 عامل وعاملة في الحقل الطبي والصحي (أطباء وممرّضين ومساعدين ومسعفين) قُتلوا، ودُمّرت كلّياً أو جزئياً 16 مستشفى واستُهدفت أكثر من 60 سيارة إسعاف أُخرجت معظمها من الخدمة. وقتلت النيران الإسرائيلية أكثر من 100 من الصحافيين والمصوّرين، معروفين بالإسم والعمر والصورة، اغتيل أغلبهم بهجمات مركّزة عليهم.
ومن بين الـ26 ألف قتيل الذين سقطوا حتى الآن (ثلثاهم من الأطفال والنساء)، قتل الجيش الإسرائيلي 94 من الأساتذة الجامعيين و231 من معلّمي ومعلّمات المدارس وأكثر من 4300 من الطلاب والتلاميذ، إضافة إلى تدمير 4 جامعات و340 مدرسة (بينها 60 تشغلّها منظمة الأونروا)، بحسب توثيق دقيق، ليس صعباً التأكّد من مصداقيته في أي حال.
وقُتل مع هؤلاء أيضاً عشرات الفنانين والشعراء والكتّاب، في ما بدا أنه حرب إبادة على التعليم والثقافة ومستقبل الغزيّين، وليس فقط على حاضرهم أو ماضيهم (إذ دُمرت كلياً أو جزئياً عشرات المباني والمرافق الدينية والأثرية والسياحية).
هل كانت المعطيات هذه لتلاقي أثراً أو ردّاً مختلفاً لو كانت جغرافيا الصراع وديمغرافيته ولون بشرة ضحاياه مختلفة؟
وهل يتعذّر على المستشفيات الغربية أو نقابات الأطباء أن تصدر بيانات أو تنظّم وقفات احتجاج أو تضامن رمزية مع العاملين في القطاع الصحي الفلسطيني المُستهدف؟ وإن كان البعض مضلّلاً نتيجة الإعلام، ألا يمكنه أن يراجع مسؤولي «أطباء العالم» و«أطباء بلا حدود» و«منظمة الصحة العالمية» و«اللجنة الدولية للصليب الأحمر» للوقوف على ما يجري؟
وماذا عن الصحافيين الفلسطينيين وقتلهم اليومي لمنعهم من التغطية في قطاعٍ، تَحول إسرائيل دون دخول الصحافيين الأجانب إليه إلا إن رافقوا جنودها ووافقوا على رقابة جيشها؟ ألا يستحقّون مطالباتٍ بالتحقيق في قتلهم ومقاطعةً للمتّهمين بهذا القتل، عوض الاستمرار في استضافتهم على الشاشات؟
الأهمّ أو الأكثر دلالة وغرابة ربما، هو صمت المؤسسات الأكاديمية والثقافية الكبرى عن جرائم تستهدف على نحو ممنهج أكاديميين وباحثين وكتّاباً، إضافة طبعاً إلى استهداف المؤسسات الفلسطينية وتدميرها وتصوير التدمير واحتفال الجنود الإسرائيليين به. وهذا يدعو الى التفكير بوظيفة التدريس نفسها وبأهدافها. فكيف يمكن أن ندرّس علوماً سياسية وعلاقات دولية وقانوناً دولياً وفلسفة وإعلاماً، وألا يكون لنا موقف حقوقي أو أخلاقي ممّا يجري من قتل يومي؟ وكيف لباحثين ومراكز أبحاث يجهدون لتأمين تمويل وتنظيم مؤتمرات وإصدار منشورات حول «الشرق الأوسط» في واشنطن أو برلين أو لندن أو باريس أن يصمتوا عمّا يجري لزملاء لهم بحجة «الحيادية العلمية»؟ وأي علوم نتحدّث عنها إن كانت معزولة عمّا يدور على بعدِ ساعات بالطائرة منا، ومن قاعات جامعاتنا؟
يدفع ما ورد ذكره بمجمله إلى خشية جدّية، من أننا بتنا في عالم تتقلّص المشتركات القيمية والعاطفية والحقوقية فيه، وتتعمّق الفرقة بين مناطقه الجغرافية على نحو أكثر حدّة وعمقاً ممّا كانت عليه في محطّات صداماتٍ سابقة. ويدفع إلى خشية إضافية من أن الديمقراطيات الغربية المأزومة داخلياً، والجانحة بعض مجتمعاتها نحو خيارات عنصرية في السياسة، شعبوية وضحلة العلم والخيال والقدرة على التعامل مع التحدّيات، باتت محدودة الجاذبية وضعيفة المصداقية. وهذا أمر خطير لها وللعالم بأسره. إذ رغم عيوب سياساتها الخارجية وإمبرياليّتها وتوحّش تاريخها الكولونيالي، إلا أن حرّياتها وفلسفة مؤسساتها وجامعاتها ودساتيرها وتنوّع ثقافاتها وفنونها وما بنته من منظومات حقوقية بعد الحرب العالمية الثانية ظلّت ما يجذب الديمقراطيين والتقدميّين إليها في مختلف أنحاء المعمورة لسنوات، خاصة في ظل خليط الاستبداد والقمع والفساد والإمبريالية «المضادة» الأشد شراسة، التي يقدّمها نموذجا بديليها الروسي والصيني…
لكن مواقفها من مقتلة غزّة صارت الجرح الصعب الالتئام في النظرة إليها وفي العلاقات بين الأفراد والجماعات في بلدانها وفي عديد البلدان الأخرى. وسيكون ضرورياً بعد توقّف آلة الحرب أن يستجمع الذين هالهم الحدّ الذي بلغته ازدواجية المعايير ومثلها احتقار القانون الدولي قواهم حيث أمكن، كي يتخطّوا القسمة القائمة، وأن تنشأ حركات مواطنية وسياسية وشبكات تحالف جديدة قوام خطابها مواجهة «حصانة الأقوياء» وقراراتهم التي تقيم التراتبيّات بين ضحايا الحروب والمجازر وفق انتماءاتهم ومواضع اغتيال أحلامهم وآمالهم.
القدس العربي
Be the first to write a comment.