اللاجئون والنازحون السوريون في دول الجوار الثلاث، تركيا ولبنان والأردن، كانوا عبئاً وظلّوا كذلك، لكنهم في الدولتين الأوليين صاروا مشكلة وأقرب الى أزمة داخلية. في المؤتمرات الأولى للدول المانحة خاض الأردن كفاحاً ديبلوماسياً شديداً للحصول على مساعدات تكفي لتغطية المتطلبات التي أثقلت على بناه التحتية. ودخلت تركيا في خلافات حادة مع الاتحاد الأوروبي قبل الاتفاق معه على مساهمة سنوية في تكاليف ضبط الهجرة وقوافل اللجوء. أما لبنان فتعامل مع مسألة اللاجئين بمزيج من القَدَرية والاستضافة الأخوّية وقصر النظر، واستغرق وقتاً قبل الاستفاقة الى ضرورة الاشراف على حركة اللجوء وضبطها، مصرّاً على اعتبار السوريين الهاربين الى أرضه “نازحين” لا يتوفر لهم الغطاء القانوني الدولي كما بالنسبة الى “اللاجئين”. وكان الهاجس آنذاك أن لا يجد لبنان نفسه إزاء مشكلة لاجئين أخرى بعد تلك التي واجهها مع الفلسطينيين والمخيمات التي تجمّعوا فيها والسلاح الذي تحصّلوا عليه للدفاع عن أنفسهم بعدما تكاثرت الاعتداءات الإسرائيلية عليهم، ثم انزلق البلد الى الحرب الأهلية.

يُعرّف النازح، للمفارقة، بأنه الشخص الذي “لم يعبر حدود بلد خارجي طلباً للجوء”، بل بقي في بلاده “وإن كانت حكومته هي السبب في نزوحه”. ويُعزى اعتماد لبنان هذا التعريف في 2011 الى أن حكومته آنذاك كانت من “لون سياسي واحد”، تحت هيمنة “حزب إيران/ حزب الله”، كما لو أنها ارتضت أن تمرّر على نفسها فكرة ان لا حدود بين لبنان وسوريا (علماً بأن الأخيرة لا تزال ترفض ترسيم الحدود بين البلدين)، وأن السوريين إذ يفرّون الى لبنان فإنهم لا يغادرون بلادهم. ومع أن أسباب “النزوح” لا تختلف كثيراً عن أسباب “اللجوء” (الهرب من الحروب والنزاعات المسلّحة، تعرّض المنازل للقصف والتدمير، الخوف من الاضطهاد والاعتقال والتعذيب، الزلازل والكوارث الطبيعية…)، إلا أن القانون الدولي يمنح اللاجئين حقوقاً ولا يجيز “اعادتهم الى وطنهم إذا كانت حياتهم أو حريتهم معرّضة للخطر”. أراد لبنان تجنّب تلك الحقوق، لكنه المفوضية الأممية للاجئين تستند الى قرارات دولية توصي بأن تكون عودة اللاجئ/ النازح “آمنة وطوعية” وفي ظروف صالحة للعيش.

والواقع أن الدمار والمجازر وأعمال التنكيل في حماة وإدلب دفعت بجزء من النازحين الى شمال لبنان (مخيمات عكار)، وفي مناطق الزبداني وريف دمشق ومخيم اليرموك والمعضمية والغوطة الى الوسط (مخيمات البقاع)، وفي ريف حمص والقصير والقلمون الى الشمال الغربي (مخيم عرسال) وقد تعمّد “حزب إيران/ حزب الله” طرد السكان من المنطقة الأخيرة ليتخذها مستوطنة خاصة به فزرعها معسكراتٍ وأنفاقاً لتهريب الأسلحة والمخدرات، إذ أقام فيها ما عُرف باكراً بـ “مصانع الكبتاغون”. ولا يتصوّر “الحزب” أنه سيغادر المنطقة يوماً، بل إنه جعل منها نموذجاً لانعدام الحدود بين البلدين. وعلى رغم تصاعد النقمة الداخلية فإن “الحزب” تفادى حتى مشاركة حلفائه المسيحيين في حملات المطالبة بإعادة النازحين، لكنه استغلّها للضغط على الحكومة كي تتواصل مع دمشق بغية إيجاد حلّ، مع علمه اليقين بأن النظام السوري والنظام الإيراني يرفضان عودة السكان لأن كلّاً منهما اعتبر نفسه حرّ التصرف بالمناطق المدّمرة.

عندما بدأت موجات النزوح السوري لم يكن لبنان قد غرق بعد في أزمته الاقتصادية والمالية، لكن وطأته استُشعرت تدريجاً بحسب المجتمعات المضيفة سواء بسبب عشوائيته أو لأن الدولة لم تبدُ قادرة على التخطيط لاستيعاب ما بات يوصف الآن بـ “الاحتلال الديموغرافي”، تحديداً في ظل تفاقم تلك الأزمة منذ 2019 وانتقال أكثر من 80 في المئة من اللبنانيين الى خط الفقر وما دونه وشعورهم بأنهم أصبحوا بحاجة الى مساعدة غذائية إسوة بالنازحين السوريين الذين يتلقون رعاية دولية للطبابة والتعليم، باعتبار أنهم خارج مواطنهم وبلا موارد. كانت المساعدة الدولارية معقولة ثم أصبحت محدودة بعد انهيار العملة اللبنانية وارتفاع أسعار السلع. وبطبيعة الحال راح النازحون يغزون سوق العمل بأجور متواضعة، وينافسون لبنانيين كثراً يعملون الآن في مهنٍ لم يكونوا يُقبلون عليها سابقاً إلا أن أجورهم تبقى أعلى.

لكن ظاهرة العمالة الرخيصة ليست جديدة وليست المصدر الوحيد للشكوى من انعكاسات النزوح، فهناك نحو نصف مليون سوري كانوا مسجّلين في وزارة الداخلية ويقيمون بشكل دائم في لبنان، بل تعاظمت الشكوى من النازحين متدرّجة من ارتفاع نسبة الجرائم والجنح، الى بث الفوضى، الى الضغط على البنية التحتية من مياه وكهرباء ومَرافق، الى شيوع النزوح الاقتصادي الذي ربطه رئيس الحكومة نجيب ميقاتي بعصابات تتقاضى مبالغ طائلة لقاء تمرير “النازحين”، وبعض العصابات يديرها رجال أمن لبنانيون معروفون ولديهم ممرات خاصة. وعلى رغم أن المسجلين لدى مفوضية اللاجئين هم 805.326 نازح فإن مراجع أخرى سجّلت ارتفاعاً في أعدادهم الى 2 – 2,5 مليون ما يجعلهم نحو 40 في المئة من السكان، لكن الرقم 1,5 مليون هو الواقعي، وهو كبير وخطير في ظل تلاشي الدولة وانعدام الضوابط. وقد بلغت الشكوى أخيراً حدّ التخويف من أن النازحين صاروا، في غياب خطط جدّية لإعادتهم الى سوريا، مصدر اختلال للتركيبة الطائفية للسكان (غالبيتهم من السًنّة) ومصدر تهديد أمني بسبب انتشار الأسلحة في مخيماتهم.

لماذا تصاعدت أخيراً الحملة على النازحين؟ جملة أسباب، فهناك أولاً تطبيع عربي متسارع مع نظام بشار الأسد وسعي روسي الى تطبيع تركي – أسدي، وفي الحالين تبرز عودة اللاجئين كمطلب إقليمي- دولي، وكعُقدة أيضاً، لكن تبرز أيضاً حقيقة أن نظام الأسد وحليفه الإيراني يقاومان هذه العودة لأنها باتت “مستحيلة” الى مناطق أتى عليها الدمار ولم تعد موجودة، ولأنها تناقض “المجتمع المتجانس” الذي يهندسانه مذهبياً بعدما تخلّصا من ثقل السنّة، كذلك لأن العودة ستتسبّب بمشاكل قضائية لا نهاية لها إذ أن العائدين المفترضين سيطالبون بأملاكهم أو بتعويضات عنها لكن النظام أزالها أو استملكها متّبعاً نهج إسرائيل مع مئات البلدات والقرى الفلسطينية… وهناك ثانياً أن الدول المانحة ستجتمع في بروكسيل منتصف حزيران (يونيو) المقبل لإعادة تقويم ما تساهم به مساعداتها، وتريد الدول المضيفة للاجئين أن تتحصّل على مزيد من الأموال فيما يرى لبنان أن أزمته المالية ترشحه لمنحة أكبر. لكن الدول المانحة، ومنها دول عربية، أطلقت إشارات مسبقة بأن سخاءها بلغ نهايته وأن مصداقية الأطراف المستفيدة، خصوصاً لبنان، تضاءلت كما أن هناك أزمات ونزاعات أخرى باتت تستقطب معظم التمويل للحاجات الإنسانية.

النهار العربي