يشير التقرير الأحدث، الذي أصدرته «رابطة المكتبة الأمريكية» قبل أيام، إلى تزايد هائل في أعداد الشكاوى المطالبة بسحب هذا الكتاب أو ذاك من مكتبات المدارس، على اختلاف صفوفها، والمكتبات العامة، وكذلك دور العجزة والمشافي والسجون؛ ضمن ظاهرة ليست البتة طارئة، بل مألوفة تماماً وترصدها الرابطة منذ تأسيسها رسمياً قبل 20 سنة. الفارق أنّ الأرقام هذه المرّة صاعقة: من 1858 شكوى (وهي أعداد عناوين، بالطبع) في سنة 2021، إلى 2571 في سنة 2022؛ ومحتويات الكتب الرجيمة لا تدور فقط حول الحريات الجسدية أو إدانة التمييز العنصري أو قضايا الدين والسياسة كما للمرء أن يتخيل، بل تشمل أيضاً روايات ومجموعات شعرية ومعاجم.
هنا، على سبيل الأمثلة الأولى، نماذج من لائحة أعمال مُنعت قراءتها في سجون ولاية كارولاينا الشمالية، بقرار إداري من «إدارة الأمن العام»: «معجم عربي ــ إنكليزي»، «أسس تقنيات الكتابة»، «موسوعة الكلاب»، «موسوعة كرة السلة»، «قاموس ألماني موسّع»، «أطلس العالم الجديد»، «النحت بالطين»، «موسوعة أدب الخيال العلمي»، «موسوعة السينما»، «قاموس وبستر الشامل»… فإذا كان المعجم الأوّل مشبوهاً لأنه يحتوي مفردات عربية، فما المشكلة مع قاموس وبستر الإنكليزي، أو… موسوعة الكلاب؟
هنا أمثلة أخرى من الكتب، مع سرد المسوّغات التي دفعت إلى سحبها: مارك توين، «مغامرات هكلبري فين»، 1884، لأنه اعتُبر «نفاية لا تلائم إلا الأحياء الفقيرة»؛ مالكولم إكس وأليكس هيلي، «السيرة الذاتية لـ مالكولم إكس»، 1965، وقد نُظر إليه كـ»دليل يعلّم ارتكاب الجريمة»، ومعاداة البيض؛ توني مويسون، «محبوبة»، 1987، لأنّ الرواية تكرّس العنف وتحرّض السود على البيض؛ دي براون، «ادفنوا قلبي عند الركبة الجريحة»، 1903، لأنه يثير إشكاليات تاريخ الهنود الحمر، ويعيد سرد تاريخ توسّع الولايات المتحدة في الغرب من وجهة نظر الأقوام الأصلية؛ جاك لندن، «نداء البرّية»، 1903، لأنه يقيم الوجود على أساس من العلاقة بين إنسان وكلب (وهذا، للمناسبة، تفسير اعتمدته النازية أيضاً فأحرقت الرواية)…
حملات المطالبة بسحب هذه الكتب، وسواها كثير متنوع، تقودها جمعيات محافظة مثل «أمهات من أجل الحرية» أو «اتحاد أولياء يوتا»، حيث تنصبّ الجهود على استصدار تشريعات بتضييق اقتناء الكتب ومحاسبة أمناء المكتبات أمام القضاء، أو الضغط المباشر على إدارات المدارس والمشافي والسجون عن طريق التظاهر والاعتصام والإعلانات المدفوعة في الصحف. لافت، على نحو خاصّ، أنّ غالبية هذه الجمعيات محافظة بالمعنى الأشدّ تزمتاً في الثقافة السياسية والاجتماعية والأخلاقية الأمريكية، لكنها أيضاً تنتمي إلى المجموعات المؤيدة للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، المؤمنة بأنّ الانتخابات الرئاسية الأخيرة سُرقت منه، والمتحمسة لترشحه وعودته مجدداً إلى البيت الأبيض.
طريف إلى هذا أنّ ترامب هو اليوم رافع راية «صيد السَحَرة»، واستهدافه من جانب الديمقراطيين واليسار في القضاء الأمريكي على خلفية شراء سكوت الممثلة الإباحية التي جمعته بها علاقة حميمة قبل أن يقتحم ميدان السياسة ويتصدّر مرشحي الحزب الجمهوري لانتخابات 2016. وأمّا وجه الطرافة فهو أنّ التعبير إنما يحيل إلى الكاتب المسرحي الأمريكي الكبير آرثر ميللر (1915-2005)، الذي كان ضحية الرقابة على مسرحيته الشهيرة «المحنة»، والتي تدور حول المحاكمات الشهيرة لساحرات بلدة سالم الأمريكية، أواخر القرن السابع عشر. إلا أنّ خلفية النصّ كانت تشير إلى أمريكا القرن العشرين، وصيد السحرة الذي مارسته «لجنة النشاطات المعادية لأمريكا»، التي دشّنت فجر الـ»مكارثية» بوصفها أسوأ استبداد ثقافي وفكري عرفته الولايات المتحدة على امتداد تاريخها. ففي عام 1947 أُضيف ميللر إلى لائحة تضمّ 320 من العاملين في مختلف أعمال المسرح والسينما والغناء والأوبرا وسواها من الفنون، مُنعوا من العمل بقرار من اللجنة تلك.
وإلى جانب ميللر توفّرت أسماء عدد كبير من خيرة كتّاب وفنّاني الولايات المتحدة آنذاك: ريشارد رايت، جوزيف لوزي، بول روبسون، داشيل هاميت، كليفورد أوديتس، لويس أنترمير، وسواهم. وذنب هؤلاء كان مزدوجاً: أنهم ينتمون بهذا الشكل أو ذاك إلى تيّارات اليسار، ويُشتبه تالياً بانتمائهم إلى الحزب الشيوعي؛ وأنهم رفضوا ممارسة الدسيسة على زملائهم، والإدلاء بمعلومات عنهم إلى اللجنة. وفي كتاب السيرة الذاتية الذي أصدره سنة 1987 بعنوان «على مرّ الأيام: حياة»، يروي ميللر تفاصيل مثيرة عن تلك الحقبة، لعلّ أشدّها تأثيراً في النفس ليس صموده هو شخصياً أمام اللجنة، بل انهيار صديقه المخرج المسرحي والسينمائي الشهير إيليا كازان.
وقد يعجب امرؤ من أنّ أمريكا هذه، ذاتها التي لا تمارس أيّ طراز ملموس من الرقابة على اقتناء الأسلحة النارية، أو إنتاج مختلف بضائع البورنو المقروءة والمرئية والمصنّعة والترويج لها، تتحفز جمعيات نافذة فيها ضدّ معجم عربي ــ إنكليزي أو آخر إنكليزي – إنكليزي داخل سجن، أو تتجند لسحب روايات إرنست همنغواي، «لمَنْ يقرع الجرس»؛ أو مرغريت ميتشل، «ذهب مع الريح»؛ أو جون شتاينبك، «أعناب الغضب»؛ أو ف. سكوت فتزجيرالد، «غاتسبي العظيم»…
والأرجح أنّ العجب لن يطول، إذا كان المطالِب بمنع هذه الأعمال، هو نفسه المؤمن بأنّ ترامب ضحية صيد السَحَرة؛ سواء بسواء!
القدس العربي
Be the first to write a comment.