وكأن الرجل لم يشأ أن يغادر تونس قبل أن يضع الجميع أمام مسؤولياتهم بعرض الحقائق المرة والحلول الأكثر مرارة.

كان بإمكان جيروم فاشيه، ممثل صندوق النقد الدولي في تونس، أن يغادر البلاد في أعقاب انتهاء مهمته دون أن يصرح بشيء ولكنك تشعر بأنه أراد من خلال تصريحاته لوكالة الأنباء الفرنسية أن يؤكد أكثر على تشخيص الصندوق للحالة التونسية بلا مساحيق، فلا يتحجج أي كان لاحقا بأنه لم يكن يدري أن الوضع هو بمثل هذه القتامة.

فاشيه قال إن على تونس، الساعية للحصول على مصادر تمويل دولية، القيام «بإصلاحات عميقة جدا» لا سيما خفض حجم قطاع الوظيفة العامة الذي بلغ «أحد أعلى المستويات في العالم» مع عجز في الميزانية والدين العام بلغ حوالي 100 في المئة من إجمالي الناتج المحلي نهاية العام 2021.

ما قاله الرجل عن وضع البلاد، والذي لا أحد يشك أنه في غاية الصعوبة، جاء تأكيدا لما سبق أن قاله صندوق النقد الدولي نفسه أكثر من مرة من أنه يريد معرفة نوايا السلطات بشأن الاصلاحات الاقتصادية التي فصّل بعضها بالقول مثلا إن هناك حاجة عاجلة لتقليص «الثقل الكبير» لعدد موظفي القطاع العام البالغ عددهم 650 ألفا يستحوذون على أكثر من نصف نفقات الدولة السنوية جعلتهم «أكبر كتلة أجور في الوظيفة العامة في العالم حتى بالمقارنة مع الوضع في مصر والمغرب ولبنان والأردن» مع رفع الدعم عن الكثير من المواد الأساسية والمحروقات والبحث عن آلية لتوجيهه للمستحقين فقط.

ليس سرا أبدا أن صندوق النقد الدولي يقترح لمساعدة تونس في مسعاها للحصول على قرض بخمسة مليارات دولار، هو ثلث ميزانيتها، أن يتم الضغط على ميزانية الدولة من خلال التقليص في كتلة الأجور، ومنح التقاعد، والاعتمادات الخاصة بالمرافق العمومية، مثل الصحة والتعليم والنقل مع خصخصة الشركات العمومية ومعالجة إفلاس المؤسسات الحكومية المختلفة. والصندوق في كل ما سبق يشترط إشراك جميع الأطراف الوطنية في ذلك في إشارة إلى الاتحاد العام التونسي للشغل، ومنظمة الأعراف، ومختلف القوى والأحزاب السياسية حتى تحظى القرارات المؤلمة بحد معقول من القناعة الوطنية العامة بها لتجنب فتح الباب أمام تحركات وقلاقل اجتماعية مختلفة.

لكل ما سبق، لم يجد الرئيس قيس سعيّد من حل سوى إعادة مد الجسور مع اتحاد الشغل، بعد طول جفاء وهو الذي كثيرا ما استخف به في الأشهر الماضية. لهذا استقبل أمينه العام نورالدين الطبوبي الذي سبق له أن صرح بأن الاتحاد «لن يدعم أي خيارات تمس من قوت الشعب التونسي أو تضرب القطاع العام أو الاستحقاقات الوطنية».

لم يعد أمام سعيّد من هامش تحرك بعد أن اقترب ظهره من الحائط ولم يعد بامكانه أن يهزأ من الجهات الدولية التي تحدد التصنيفات الائتمانية لبلاده وغيرها، أو أن يقول، بشكل أثار الكثير من السخرية، إن المهم ليس الناتج الداخلي الخام لبلاده وإنما السعادة الوطنية الخام!!

بإمكان سعيّد أن يصول ويجول سياسيا كما يريد، طالما أن التصدي له لم يصل أوجه بعد، لكن ليس بامكانه أبدا أن يصمد أمام الاستحقاقات الاقتصادية والمالية التي لا ترحم، خاصة بعد أن أسرف في الحديث عن أن تونس بلد غني لولا الفاسدون واللصوص، في وقت لم تر فيه الفئات الشعبية شيئا من وعود الرئيس حتى على مستوى أسعار المواد الأساسية التي ارتفعت عوض أن تنزل كما وعد.

ليس بإمكان سعيّد التعويل فقط على اتحاد نقابات العمال أن تقف معه في المرحلة المقبلة لأن اتحاد الشغل بنفسه واقع تحت ضغط قواعده التي ترى ظروفها تزداد سوءا مع الأيام، لكن بإمكان سعيّد، إن هو انفتح على كل القوى السياسية وأعاد قطار الديمقراطية إلى سكته وتخلى عن مشاريعه الشخصية المغرقة في الغرابة، أن يجد ربما حاضنة وطنية مستعدة لتقبل التضحيات إن هي رأت أفقا واضحا ورؤية واقعية مقنعة.

ما فتأ المانحون الغربيون يدعون إلى حوار سياسي شامل في البلاد مع جدول زمني واضح للعودة إلى الوضع الدستوري العادي وإنهاء «الأحكام الاستثنائية» التي فرضها سعيّد، ودون ذلك لن تتمكن تونس من تحمّل «الحلول الموجعة» التي قد تتمثل في التخفيض في أجور الموظفين أو تجميدها لبضع سنوات، لاسيما وأن الشعارات الشعبوية لقيس سعيّد جعلت الكثيرين يتوهمون أن حياتهم ستتحول سريعا إلى رخاء طال انتظاره، على أساس أن ما أصاب الناس في السنوات الماضية لم يكن سوى نتيجة سوء الأطراف السياسية التي تداولت على الحكم مع أن ذلك صحيح تماما لكنه ليس كامل الحقيقة.

في تونس الآن، وفي غيرها طبعا، لا يمكن فصل الاقتصادي عن السياسي ومن غير الوارد، أو على الأقل من الصعب جدا، أن تستعيد تونس بعض عافيتها الاقتصادية دون أن تستعيدها سياسيا بإنهاء هذا العبث وانعدام الكفاءة في تسيير الدولة مع نوازع استبداد واضحة للداخل والخارج.