إذا كان الواقع يفيد بأن المعارضة الرسمية السورية ليست بخير، وأن أداءها السياسي والتنظيمي، ضمن الواقع السوري، وعلى مساراته المتعدّدة، يشوبه ويلفّه كثيرٌ من حالات التعثر والفوات، ومن ثم قلة الحيلة، والعجز عن إنجاز ما هو أفضل في جلّ مسارات المسألة السورية، بعد مضي 13 عاماً خلت، من عمر ثورة الشعب السوري، ثورة الحرية والكرامة، فإن النظرة الموضوعية والجادة والمُنصفة، لابد من أن تتناول المقلب الآخر من المعارضة السورية، وقوى الثورة التي توجّه النقد الدائم لجملة أداء المعارضة الرسمية، بل تحاول أن تسحب البساط من تحتها، في حالاتٍ كثيرة، ثم تضعها في “خانة اليك” واللاجدوى، فهل استطاعت هذه القوى الكثيرة والمتعدّدة، أن تخرج بإنجاز واقعي ميداني يلقي بظلاله على حاضر ثورة السوريين ومستقبلهم، أو تُخرجهم من عنق الزجاجة؟ أم أنها ما زالت هي الأخرى تعثُر في معظم خطواتها، وتتعثّر في إنجاز أي خطوة حقيقية، يمكنها إعطاء الأمل لمستقبلاتٍ أفضل وأنجع لثورة السوريين؟ والجواب العاقل والموضوعي وغير المتحيّز إلى أي من هذا الخطل في الواقع السوري يقول: لقد حاولت منصّات وتشكيلات كثيرة في المعارضة السورية، على امتداد الجغرافيا السورية، وخارجها في باحات المنافي، أن تنتج جسماً موازياً أو بديلاً وقادراً على إنتاج ما هو أفضل وأرقى وأكثر تلبية للواقع والضرورات، وأكثر تماسكاً، أو أعمق، ويتجذّر منطقيّاً في الواقع السوري، ويحاكي المنعرجات والمسارات المتعدّدة للمسألة السورية، لكنها جميعاً كانت متعثرة، وغير قادرة على المتابعة، أو اجتراح الحلول الممكنة والقادرة على المضي نحو غاياتها، والاشتغال بحقّ نحو مؤتمر سوري عام، يُنتج حالة معارضة سورية أقوى وأمتن وأكثر تماسكاً، ويعود ذلك لأسباب كثيرة، منها:
– عدم توفر الأرض المناسبة والحرّة، بدون ضغوط، وبدون عملية احتواء، والتي يمكنها تحقيق وقيام الجسم العريض والجامع للجميع، بكل ألوان الطيف السياسي، يمكن عبرها من اللقاء وتحقيق حالة من الإجماع الوطني السوري، القادر على إعادة إنتاج الواقع السوري الجديد وفق محدّدات حداثوية تتجاوز كل العثرات الكبيرة، التي أودت بالمعارضة الرسمية السورية خلال السنوات السابقة إلى ما هي عليه من ضياع وتذرّر ومحاصصات مصلحية نفعية.
كذلك، حالت الأيديولوجيا، مرّة أخرى، دون لقاء السوريين، وكانت، في معظم الأحيان، معوقاً جدّياً ساهم في منع اجتماع كل ألوان الطيف السياسي والعسكري السوري، الذي ما زال يعاني من صراعات ومناكدات أيديولوجية، تساهم في حالة التشظّي الكبرى التي تعيشها المعارضة غير الرسمية السورية.
– غياب إن لم يكن تغييب العقل النقدي الواعي والواضح، والذي يمكنه، فيما لو وجد، أن يتجاوز كل المقدّسات الفكرية أو السياسية، ويعي أن الوعي النقدي بات ضرورة حياتية، لتحقيق أيّ خطوة إلى الأمام يمكن البناء عليها. إن غياب هذا الوعي النقدي، والعقلانية النقدية في السياسة والفكر، ما زال يحول دون الوصول إلى توافقاتٍ وتفاهماتٍ على الخطوط العريضة، التي لابد من الاتّكاء عليها، ضمن عمليات البناء، من منطلق أن النقد المزدوج طريقٌ للاستيعاب وليس العكس.
– ولا يبدو أن ما وقعت فيه المعارضة الرسمية السورية من تمظهرات جمّة للزعامات والانتهازية السياسة، والتحكّم بالقرارات الوطنية، كان بعيداً عن خطوات المعارضة البديلة، التي لم تتمكّن بعد من الخروج حقيقة، من حالة الزعامات والمصالح والتكتّلات التي تصبّ في خانة الانتهازية والوصولية، والتي تَنتحُ من معين الفكرة التي تقول “إن الأنظمة المستبدّة تُنتج معارضاتٍ على شاكلتها”. وهذا الواقع الحقيقي ما انفكّت تعاني منه معظم التجمّعات والتكتلات، وكل الدعوات نحو البديل المعارض، والمناكف للمعارضة الرسمية السورية.
– علاوة على أن كل هذه التجمعات واللقاءات التي التأم شملها في غير مكان من الفضاء الجغرافي الكبير، الذي يجمع السوريين، ما زالت غير قادرة واقعيّاً، على القيام بمهام العمل الوطني، ضمن الحالة الديمقراطية الأرقى، التي لا ضيْر أنها باتت ضرورة ومهمّة، حتى تكون هناك مبرّرات لوجود هذه المعارضة البديلة، حيث خرج الشعب السوري بالأساس (في ثورته) لكنس الطغيان والقمع والاستبداد، وبالتالي، تحقيق دولة المواطنة في سورية، وسيادة القانون، وإشاعة الحريات العامة، وحقوق الإنسان، ووقف استلاب الإنسان السوري وهدره، بعيداً عن كل حالات الدكتاتوريات والطغيان وتمظهراتهما، وإلا فإنك تكون كمن يقول: “كأنك يا زيد ما غزيت”.
حال تذرّر المعارضة الرسمية، وغير الرسمية منها، دون تحقيق الجسم التنظيمي الكبير والجامع، والذي يلم جميع فئات الشعب السوري، بكل إثنياته وطوائفه، وألوانه السياسية، فليس هناك حالياً من تنظيم سياسي سوري، أو جسم، أو تجمّع ما، يتجاوز عديد القوى أو الأفراد المنضوية فيه أو تحته بضع العشرات، أو المئات في أحسن الأحوال. ولعلّ في ذلك ما يشير إلى ضآلة الإمكانية، وعجز (وغياب) الأدوات عن التعويض بأي بديلٍ حقيقيٍّ قوي يعطي الحالة السورية بعداً متماسكاً وقوياً بشكل أفضل.
– وهنا أيضاً لابد من أن نقول وبوضوح وصراحة: إن الكثير من تجمّعات المعارضة غير الرسمية وتشكيلاتها، التي هي اليوم موضوع البحث، ما برحت تحاول إمساك العصى من المنتصف، فهي ترفض الدعم الخارجي، أو تتمنّع عنه إعلامياً، حتى لا تصبح أحوالها شبيهة بأحوال المعارضة السورية الرسمية، لكنها، في واقع الأمر، وضمن مساحتها الداخلية، ما زالت عينها على ذلك الدعم وفوائده، و”تحاول فيه ملكًا” وحركة ما أمكنها إلى ذلك، وهو ما يجعلها أسيرة تصوّراتها المتردّدة هذه، والتي يمكن أن تنتج حالة بديلة للمعارضة السورية، لكنها هنا من الممكن أن تقع تماماً بما سبق ووقعت به تشكيلات المعارضة الرسمية السورية، عندما راهنت، منذ بداياتها بعد عام 2011، على وضع كل بيضها في سلّة الخارج، وأوصلت الواقع السوري إلى هذه المآلات من المعاناة البائسة.
الواقع السوري اليوم، مع السنة الثالثة عشرة من عمر ثورة الحرية والكرامة، ينبئ بمصائر صعبة ومضنية ومشوبة بكثير من التعثّر، وكثير من سمات الاستنقاع في الحالة والمسألة السورية التي تعاني فيها وعبرها من احتمالاتٍ كثيرة، تعيق أي عملية إنجاز أفضل وأرحب نحو الحلّ السياسي، أو إنفاذ القرارات الدولية ذات الصلة وتحقيقها، ضمن أجواء المشهد العربي والدولي والإقليمي، من الاستنقاع والعجز والتخلّي عن المسألة السورية برمتها، نتيجة هذه التعثّرات التي يتحمّل مسؤوليتها أولاً وآخراً كلا النوعين من المعارضة الرسمية بمصالحها ومحاصصاتها، وغير الرسمية بتشتّتها وضياع بوصلتها، وإصابتها بمعظم ما أصاب المعارضة الرسمية، من دوار وأمراض، لا يبدو أنها أصبحت قاب قوسيْن أو أدنى من الشفاء منها، أو الخروج من عنق الزجاجة فيها.
العربي الجديد
Be the first to write a comment.