حرصت واشنطن على اعلان أنها لا تبحث عن صراع مع ايران بعدما دمّرت طائراتها مواقع لـ “الحرس الثوري” الإيراني وميليشيات تابعة له. أما طهران فأعلنت العكس وانتهزت الواقعة لتطرح مجدّداً “عدم شرعية” الوجود الأميركي في شمال شرقي سوريا، وبدء “المقاومة” ضدّه بهدف إخراجه. وفي السياق أشار الناطق باسم المجلس الأعلى للأمن القومي الى أن القواعد الإيرانية الموجودة في المنطقة أنشئت “بطلب من الحكومة السورية للتصدّي للإرهاب”، ومع أن دمشق لم تعلن ذلك سابقاً إلا أنها لن تجد ضرورة لتكذيبه، فإيران تتصرّف دائماً وفقاً لخططها ومشروعها وكثير مما تفعله لا يكون بطلبٍ أو بإذنٍ من النظام. والأكيد أن المنطقة الشاسعة التي استولت عليها وعسكرتها بين دير الزور والبوكمال والميادين هي لتسهيل التواصل بين الجماعات التابعة لها عبر الحدود السورية- العراقية. أما مكافحة الإرهاب وتنظيم “داعش” فهي ذريعة تبقى مفيدة لأي طرف يريد أن يبرّر تدخّله في سوريا.
كان أُشير الى “عدم شرعية” الوجود الاميركي في شمال شرقي سوريا في أكثر من مناسبة، تحديداً من جانب الروس كلّما تعقّدت العلاقة بينهم وبين الاميركيين حول الملف السوري أو سواه أحياناً (قبل غزو أوكرانيا)، ومن جانب الإيرانيين والنظام السوري، كما انضمّ الأتراك اليهم في الفترة الأخيرة حين اعتبروا الرفض الأميركي لتوسيع منطقتهم الآمنة “حماية للإرهابيين” (والمقصود هنا هم الكرد). وفيما يتمترس الأميركيون وراء لافتة “التحالف الدولي ضد الإرهاب” ورعايتهم “قوات سوريا الديموقراطية” الكردية للبقاء في شمال سوريا، كذلك في قاعدة التنف في الجنوب، فإن المتغيّرات التي أحدثتها حرب أوكرانيا فرضت أوضاعاً جديدة في سوريا خصوصاً بعد انحياز إيران الكامل الى جانب روسيا وتزويدها مسيّرات وصواريخ. لم تعد روسيا تمانع شنّ إيران هجمات على القواعد الأميركية من دون مشاركة قوات روسية فيها، لكنها التزمت ممانعتها شنّ إيران هجمات ضد إسرائيل وحافظت على التنسيق مع الأخيرة في ضرباتها الصاروخية للمواقع الإيرانية في سوريا.
قبيل ساعات من المواجهة الأخيرة كان قائد عسكري أميركي يسجّل، مشيراً الى “مخاطر تصعيد”، أن طائرات روسية حلّقت باستمرار فوق قاعدة التنف في الجنوب السوري خلال هذا الشهر، كما فعلت في بداية السنة، على رغم اتفاق عمره أربعة أعوام بين الطرفين. هذه القاعدة تقع عند ملتقى الحدود السورية والعراقية والاردنية وترعى فصيل “جيش سوريا الحرّة” (مغاوير الثورة سابقاً)، الذي لا يقاتل قوات النظام ويقول الاميركيون أنهم يستخدمونه ضد محاولات تنظيم “داعش” اختراق تلك المنطقة. في اليوم نفسه (الخميس 23/03) كان يُعقد في عمان اجتماع للمجموعة الدولية المعنية بالأزمة السورية (بالإضافة الى الاتحاد الأوروبي والجامعة العربية)، ومع أن المجتمعين ركّزوا على ضرورة الحفاظ على التفويض الأممي للمساعدات الانسانية عبر الحدود وتوسيع نطاقه، إلا أنهم جددوا دعمهم تطبيق القرار الدولي 2254 الذي ينص على انتقال سياسي في سوريا. ولا بدّ أن اجتماعاً كهذا مستفزّ لروسيا وإيران، خصوصاً أنه جمع دولاً عربية مقبلة على تطبيع العلاقات مع نظام بشار الأسد الى جانب دولٍ غربية لا تزال متمسّكة بشروطها المسبقة لهذا التطبيع (حل سياسي، عودة آمنة للاجئين…).
وكانت الزاوية الإنسانية التي يُنظر منها الى الشأن السوري، وإلى تبرير التقارب مع نظام الأسد، تعرّضت لاختبار قبل أيام قبيل انعقاد مؤتمر الدول المانحة في بروكسيل لمساعدة تركيا وروسيا على مواجهة أضرار الزلزال. رفضت الدول الأوروبية الأساسية طلب حكومة دمشق دعوتها الى المؤتمر، على رغم موافقة خمس دول (إيطاليا واليونان والمجر ورومانيا والنمسا)، وفيما خصّصت مساعدة لإعادة الاعمار في تركيا اقتصرت المساعدة لسوريا على تأهيل الأبنية والمرافق المتضرّرة، أي أن أوروبا لا تزال مصرّة على وضع أي مساعد لإعادة الاعمار في سوريا مقابل التقدّم نحو حلٍّ سياسي.
في الأثناء بدأت موسكو التعامل مع “اتفاق بكين” لتطبيع العلاقات بين السعودية وإيران على أنه عنصر توازن من شأنه أن يخفّف وطأة العقوبات الغربية على النظام السوري، وأن يخفّف أيضاً على روسيا (وإيران) أعباء دوريهما في سوريا، خصوصاً أن ظروفهما اضطرتهما للتوقف منذ نحو عامين عن تقديم أي مساعدة مالية أو عينية للنظام. لكن موسكو فوجئت، وبعضٌ من مصادرها يقول أنها صُدمت، بالتشدّد الذي أبداه الأسد في زيارته الأخيرة حيال أي مصالحة مع تركيا، وهو ما يُعتبر هدفاً روسياً استراتيجياً. قالت تلك المصادر أنه كان مستقوياً بالموقف الإيراني، ومراهناً من جهة على دعم خليجي وعربي بات ممكناً، ومن جهة أخرى على انتخابات تركية تُسقط رجب طيب اردوغان الذي تدعم موسكو بقاءه في السلطة. وهكذا فإن إيران لم تنجح فقط في اقحام نفسها في المسعى الروسي للتطبيع مع الأسد وتركيا بل استطاعت أيضاً أن تعطّل هذا المسار.
وبالعودة الى التوتير في شمال شرقي سوريا، يتبدّى أكثر فأكثر أن حرب أوكرانيا فتحت أمام إيران خطّاً لاستثمار الأزمة الدولية ولمتابعة استراتيجيتها الخاصة القائمة على “طرد” الولايات المتحدة من المنطقة، ما لن تمانعه روسيا أو الصين بل يمكن أن تشجّعا عليه. لكن الظرف الأوكراني واضطرار روسيا لسحب الكثير من قواتها أتاح لإيران أن تتسيّد الساحة السورية مستندة الى استقطابها جزءاً رئيسياً من قوات النظام، وفيما بدأت قبل عام تدريباً لميليشياتها على استخدام المسيّرات، راحت تستغلّ التغاضي الروسي لتكثيف الهجمات بـ “الدرونز” على القواعد الأميركية، وفقاً لسيناريو طُبّق في العراق وحقّق نجاحاً بفرض انسحاب أو إعادة انتشار أميركي، لكن يجري تنقيحه لملاءمة الوضع الميداني في سوريا.
أصبحت المواجهة الأميركية- الإيرانية في سوريا أكثر وضوحاً، فعلى رغم أن طهران تحاول تصوير نفسها كأنها موجودة بالصدفة في دير الزور والبوكمال والميادين، إلا أن واشنطن اعتبرتها مسؤولة مباشرة عن الهجمات على قواعدها، أي أن الردّ بغارات جوية قتل فيها 19 من عناصر ميليشياتها يُفترض أن يكون رادعاً. ليس عدد القتلى أو الوسائل العسكرية المستخدمة ما يمكن أن يردع طهران، إذ أن ردّها الأول أشار الى “عدم وجود إيرانيين” بين القتلى، قبل أن تتوعّد بـ “ردٍّ مضاد وحاسم”. لذلك يرى مراقبون أن الجانب الأميركي تأخر كثيراً إذا كان هدفه الردع، وأن ردعه لم يعد كافياً أو فاعلاً، فالإيرانيون أقاموا بنيتهم العسكرية تحت أنظاره ولم يخفوا أهدافهم. المواجهة لا تزال في بدايتها، وإذ تبدو الآن غير متكافئة بالسلاح فإنها قد تفاجئ الاميركيين خصوصاً إذا قرّرت موسكو دعم اخراجهم من سوريا.
النهار العربي
Be the first to write a comment.