تردّدت عدة آراء، بينها لدبلوماسيين وكتاب مختصين بشؤون روسيا، عن أثر كوفيد 19 على زيادة العزلة النفسية التي يعاني منها رئيس روسيا فلاديمير بوتين، بشكل أدى إلى انقطاع تواصله مع العالم الحقيقي، وساهم، حسب تلك الآراء، في قراره الأخير باجتياح أوكرانيا.
غير أن أثر الوباء الهائل لم يقتصر، في الحقيقة، على الحالة النفسية لبوتين فقد كان أحد العناصر أيضا في تغيّرات كبرى في الولايات المتحدة الأمريكية نفسها.
الوباء هو جزء مؤثر في سرديّة تؤمن بها نسبة كبرى من أتباع الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، تعتبره جزءا من المؤامرة الكبرى التي تتعرض لها البلاد.
تبدو عناصر تلك السرديّة خلطة تجمع بين السحر الأسود والنزعات الهمجية لعسكرة المجتمع والسيطرة عليه.
السلطة، حسب تلك السردية، انتزعت بالتزوير من ترامب، وأن مجموعة سرية مغلقة Cabal من «عبدة الشيطان» الذين يخطفون الأطفال ليمارسوا عليهم طقوسا جنسية ودموية، وعلى رأسهم هيلاري كلينتون، المرشحة الرئاسية السابقة في مواجهة ترامب.
على «الوطنيين» حسب تلك السردية، أن يلجؤوا للعنف لاسترداد السلطة، وتخليصها من العصابة التي تمارس تلك الجرائم الخطيرة لخطف الأطفال وتعذيبهم واستخدام دمائهم في طقوسها الشريرة.
الجذور الواقعية لنظرية المؤامرة
من المذهل العلم أن أتباع نظرية المؤامرة هذه المنتظمين تحت مسمى QAnon يمثّلون جزءا كبيرا من المجتمع الأمريكي، وهناك إحصاء يقول إن 20 مليونا منهم يعتبرون العنف مبررا لإعادة ترامب للسلطة، وكانت محاولة اقتحام الكونغرس الشهيرة، ذروة كبرى تظهر تأثير تلك السرديّة العنيف في السياسة الأمريكية.
كما استند بوتين إلى تركيب سردية تاريخ سياسي بشكل نفى فيه وجود دولة أوكرانية، ووضع أسسا «نظرية» لإلغائها، فإن نظرية المؤامرة تقوم، وبشكل يوميّ، بضخ أخبار ذات صلة بالواقع، بشكل ما، لكنها تؤلف للتخديم على نظرية المؤامرة والمؤمنين بها. من هذه الوقائع استخدام نائبة في الكونغرس لمعلومة تقول إن 366348 طفلا اختفوا في عام 2020، وهي معلومة مستقاة من تقارير للشرطة الفيدرالية، غير أن هذه التقارير تتضمن كل الإبلاغات التي تتعلق بغياب أطفال عن بيوتهم لأيام أو لساعات. تأكيد هذه الواقعة من شخصية سياسية تعني، عمليا، أن طفلا من بين كل خمسة أطفال أمريكيين قد اختفى، وانتظام هذا التصريح ضمن نظرية المؤامرة الشهيرة يعني أن «كابال» عبادة الشيطان قد خطفوهم. الحقيقة أن 30 ألف طفل لم يعودوا إلى بيوت أهاليهم، وهذا يتضمن آلاف المراهقين الذين تركوا منازل أهاليهم طوعا.
ينظر أولئك المؤمنون بـQAnon إلى الساسة والإعلاميين والأكاديميين ورجال الأعمال باعتبارهم جزءا من «الدولة العميقة» الشريرة المتآمرة، وبأنهم يسيطرون على شؤون الحياة ويخربون المجتمع وكوكب الأرض. الدراسات النفسية التي أجريت حول هذا الموضوع تتحدث عن إحساس بشري متعاظم بأننا ضعفاء مهددون ومحاطون بقضايا غامضة تبعث على الشك.
بوتين وشامان QAnon
أحد الصحافيين البريطانيين، غابرييل غيتهاوس، حاول التعمّق في الظاهرة متسائلا: ماذا لو كان هناك طريقة للنظر إلى هذه المسألة بطريقة أخرى غير الاستخفاف بها. يعود غيتهاوس إلى أحد كتب النبوءات والأحداث القيامية الشبيهة بما يحصل اليوم، والذي ظهر في القرن الخامس عشر، في فترة كان فيها النظام الاقطاعي ينهار والعالم الحديث يتشكل.
الكتاب كان لكاهن ألماني يدعى هاينريك كريمر وعنوانه «مطرقة الساحرات». تحدث كريمر في ذلك الكتاب عن وجود ساحرات مارسن الجنس مع الشيطان، وهن موجودات في كل قرية وبلدة، بحيث زرع الشك في كل مكان ضد «العدو الداخلي» ويصف كريمر في الكتاب كيف يمكن كشف أولئك الساحرات والقبض عليهن وتعذيبهن. مع اختراع الطباعة صار الكتاب المذكور الأكثر انتشارا في أوروبا (ثم أمريكا) بعد الكتاب المقدس، وساهم لقرنين في ظاهرة «مطاردة الساحرات» ومقتل مئات آلاف النساء.
تتمركز نظرية المؤامرة الحديثة على وجود «عدو داخلي» يجعلك تشك بكل من حولك. لا تأمن لابتسامة صديقك فربما وراءها شخص شرير أو واحد من العصابة الهائلة النفوذ التي تخطف الأطفال. العالم يتعرض لجائحة هائلة. إنها جزء من المؤامرة العالمية للسيطرة على الإنسانية. مناخ الكوكب يزداد سوءا والكوارث والحروب تتزايد. العاصفة مقبلة وعليك أن تحدد موقعك ضمن هذه الحرب الداخلية. يمثل جاكوب انجيلي، كاهن نظرية QAnon ذو القرنين (الذي يسمي نفسه «شامان Q») الذي كان بين المقتحمين للكونغرس، أحد الأمثلة الفاقعة لأولئك المؤمنين. لقد اقتحم «معبد الشيطان» السياسي الأمريكي، ووضع على مكتب كامالا هاريس رسالة تقول: العدالة مقبلة، لكنه انتهى بحكم بالسجن ثلاث سنوات ونصف السنة!
شغلت الصحافة البريطانية مؤخرا أيضا بشخصية غاري توماس، الشاب الذي كان من رافضي التلقيح، ومتابع نظرية المؤامرة بطبعتها البريطانية. الشاب الذي كتب على وسائط التواصل الاجتماعي باعتبار كورونا مؤامرة، قام أيضا، بتهنئة رئيس النظام السوري بشار الأسد بعيد ميلاده. الشاب أصيب بكوفيد 19 ومات، وصارت حكايته مثالا على العلاقة بين رفض تصديق الوباء والإيمان بنظرية المؤامرة وتداعياتها السياسية.
إذا قارنّا تفكير أنجيلي مع بوتين، الذي يتحدث عن أمريكا باعتبارها «امبراطورية الأكاذيب» فلن نجد فوارق كبيرة، باستثناء أن الرئيس الروسي قادر على تحريك الجيوش واختراع جمهوريات وإلغاء شعوب وأمم ودول. رغم أن «نظرية المؤامرة» في رأيي الشخصي، هي جزء من مؤامرة ساهم فيها متنفذون كبار، مثل ترامب وستيفن بانون وأقطاب الفاشية والعنصرية واليمين المتطرف في العالم، فإن فيها عناصر دينية واضحة، حيث تتناظر الأهداف السياسية الواضحة لتلك الاتجاهات السياسية مع العناصر القيامية. هناك بالتأكيد أسباب عميقة كبيرة تختزنها تلك النظرية: هناك عالم قديم كبير يوشك أن ينتهي، وعالم آخر يتشكّل. / القدس العربي
Be the first to write a comment.