يصف الفنان اللبناني زياد رحباني وزميله المخرج السينمائي جان شمعون في اسكتش فكاهي بثته «صوت الشعب» محطة إذاعة الحزب الشيوعي اللبناني، في سبعينيات القرن الماضي، كيف كان اليساريون اللبنانيون واقفين «في خندق واحد مع قوى التقدم، والمعسكر الاشتراكي، لمواجهة الرجعية والصهيونية والاستعمار» حين فوجئوا بدخول «قوى الرجعية» للقتال معهم في الخندق نفسه!

يقصّر هذا التوصيف الكوميدي، في الحقيقة، عن وصف ما حصل في «الخندق العربي» بعد الغزو الروسي على أوكرانيا (ويعجز، في الحقيقة، عن تفسير ما حصل لزياد رحباني نفسه، لاحقا) فرغم إعلان «الجامعة العربية» حيادها في موضوع الحرب، فإن الذي ظهر فعلا هو اتجاه واضح لدى الأنظمة العربية وزعمائها، كما لدى معارضاتهم، بمن فيهم الخصوم الأيديولوجيون، وأصحاب الصراعات التاريخية المزمنة، للانحياز إلى صف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وليس للأوكرانيين الذين تعرضت بلادهم للهجوم.

على عكس الأحداث، التي يصطفّ فيها المختلفون سياسيا، ولو على سبيل «فقه النكاية» بعكس بعضهم بعضا، شهدنا حدثا «فلكيا» غير مسبوق، يجتمع فيه الخسوف والكسوف ونزول النيازك في الوقت نفسه، فرأينا تقاربا لمواقف الجزائر والمغرب، والفلسطينيين (باتجاهاتهم الأيديولوجية المختلفة) وإسرائيل، ومجمل دول الخليج، مع دول «الممانعة» على قلب واحد!
خضع هذا الاصطفاف، حتى، لأشكال من المزاودة «العاطفية» ففيما اعترف النظام السوري بـ«جمهوريتي دونيتسك ولوغانسيك» وأرسل مرتزقة للقتال إلى جانب الروس، كان محمد حمدان دقلو (حميدتي) نائب رئيس مجلس السيادة السوداني، يتنافس مع وزير خارجية دمشق، بالتضاحك مع المسؤولين الروس في موسكو في الأيام الأولى للغزو، مرددا الوعود حول قاعدة روسية، ثم نجد رمطان لعمامرة وزير الخارجية الجزائري، الذي أعلنت بلاده «الحياد» مع بدء الأزمة، رفقة لافروف في موسكو أيضا، مع إعلان قرب تنفيذ مناورات عسكرية بين البلدين.

لم يتوقف «خندق بوتين» عن الاتساع، وبطريقة تثير التعجب من اجتماع الأضداد فيها، فالمغرب، المحسوب على «المحور الغربي» الذي ستجري المناورات الروسية – الجزائرية على حدوده (في تهديد مبطّن باجتياح له مشابه لاجتياح أوكرانيا!) امتنع عن التصويت في الأمم المتحدة ضد روسيا، ما دفع موسكو لاعتباره «دولة صديقة» أما الإمارات، فلم تكتف بالامتناع عن التصويت في مجلس الأمن ضد روسيا (فكوفئت بتصويت لموسكو معها ضد الحوثيين) بل فتحت الأبواب لأصحاب المليارديرات الروس الهاربين من حملة عقوبات ومصادرات لممتلكاتهم وأموالهم ويخوتهم للانتقال إليها، وشاركت مع السعودية، في رفض ضخ المزيد من النفط في الأسواق لتخفيف أثر غياب النفط الروسي.

النظم ومعارضاتها على قلب واحد!
تعاطت السلطة الفلسطينية مع الحرب في أوكرانيا على طريقة «مسك العصا من الوسط» فالسلطة، حسب وزير خارجيتها رياض المالكي: «لسنا دولة مضطرة لأخذ موقف معين» ودعا رئيس الوزراء محمد اشتية «لإنهاء الحرب» أما موسى أبو مرزوق عضو المكتب السياسي لـ«حماس» فاعتبر أن ما يهمّ هو «انتهاء سيطرة أمريكا كقطب منفرد في العالم» معتبرا أن ذلك «سينعكس سلبا على مستقبل الكيان الصهيوني».

حاولت إسرائيل، بدورها، البقاء على الحياد، وأظهر ذلك رئيس وزرائها بطلب التوسط بين الطرفين، وتملصت من طلبات الولايات المتحدة الأمريكية المشاركة في فرض العقوبات على موسكو، كما رفضت الانضمام لقرار قدمته واشنطن لمجلس الأمن، وامتنعت عن تزويد كييف بمساعدات عسكرية. خلاصة القول، إن إسرائيل، التي يفترض أن “انتهاء سيطرة أمريكا كقطب منفرد سينعكس سلبا عليها”، حافظت على هامش مناورة مع الغرب وامتنعت عن المشاركة في معركته.

مالت نسبة وازنة من النخب السياسية العربية المعارضة، على اختلاف ألوانها الأيديولوجية، لروسيا وهللت لقرب انتصارها، وأكدت انبثاق نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب بعد تلك الحرب، تشترك فيه روسيا مع الهند والصين في مواجهة الغرب.

استعاد بعض كتاب اليسار حكاية خلاف زعيم البلاشفة مع ستالين حول طرق التعامل مع القضايا القومية، وحلّل البعض سبب كراهية بوتين للينين وتحميله مسؤولية «اختراع» أوكرانيا (وصلتني رسالة من مثقف شيوعي عربي سابق تذكر أن لينين كان يهوديا!) بينما تداول آخرون أدبيات مثل بيان للحزب الشيوعي الروسي يتحدث عن «سيطرة النازيين الجدد» في أوكرانيا و»الإرهاب ضد مدنيي الدونباس» إلخ، ووصل الأمر بالبعض للاجتهاد المتحمس في إنكار مسؤولية روسيا عن الجرائم التي تحصل في أوكرانيا.
في مقابل تركيز اليساريين على المقولات الطبقية والإمبريالية ركز الإسلاميون على مسائل مثل نفاق الغرب في التعامل مع اللاجئين وأهمية ظهور عالم متعدد الأقطاب، كماركزوا، كالعادة، على معادلة العداء بين الغرب والإسلام، وإنكار الغرب على المسلمين، نصرتهم لإخوتهم، وعلى الفلسطينيين، حقهم في الدفاع ضد الاحتلال والاستبداد.

الخلاص السحري من المهانة
يتحدث مصطفى حجازي في كتابه «سايكولوحية الإنسان المقهور» عن ظاهرة التماهي بالمعتدي، حين «يحس الإنسان المقهور بوطأة وضعه وعجزه عن تغيير علاقة القهر» وهي أوالية استخلصتها آنا فرويد (ابنة مؤسس التحليل النفسي) من عملها العلاجي مع الأطفال، الذين يعانون من اضطرابات نفسية، تتحول خلالها الضحية إلى معتد من خلال تلبيس دور الضحية إلى شخص آخر يصبح موضوعا للتشفي، أو للتنكر من المخاوف الذاتية. تبدأ تراتبية التماهي بالمتسلط من أعلى الهرم، حيث يتماهى المتسلط المحلي بسيده وحليفه الأجنبي الذي يتقدم عليه تكنولوجيا وحياتيا، وتنتهي بتماهي أكثر الناس ضعفا وهوانا بمن يفوقهم في المرتبة مباشرة، «إلا أن النموذج السائد هو التماهي بأعلى المتسلطين مقاما ونفوذا محليا وخارجيا». التماهي بعدوان المتسلط، حسب حجازي، الذي يحاول فيه المرء «فرض القهر والمهانة على الآخرين بالقدر نفسه الذي عانى منهما» هو أسلوب «في الخلاص السحري من المهانة».

قدم هلال خشان، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأمريكية في بيروت، عرضا للظاهرة في مجلة «جيوبوليتيكال فيوتشرز» لتفسير انجذاب الشعوب العربية لبوتين، وتقارب قادة العرب، أيضا معه، في الوقت الذي أجمع فيه «المجتمع الدولي» بصورة شبه كاملة، على التصدي للغزو الروسي، وعدّد خشان خمسة أسباب للظاهرة: البحث عن بطل، و«السمات الرجولية» لبوتين باعتباره «زعيما قويا» والإرث السوفييتي الباقي، ودعم بوتين لأنظمة الاستبداد العربية، وكون بلاده موردا أساسيا للأسلحة. أما الاقتصادي السويدي أندرس أسلوند فيرى أن الحرب في أوكرانيا هي معركة كبيرة بين النظامين السياسيين الأكثر هيمنة في العالم اليوم، وهما «ديمقراطية سيادة القانون بمواجهة حكم اللصوص المستبدين» إشارة إلى أن القوى السياسية المؤيدة لبوتين، أنظمة ومعارضات، هي خارج رؤية العالم بهذا الشكل، لأنها ببساطة، لا تؤمن بالديمقراطية، وتناهضها.

اختيار النظم العربية لـ«الحياد» وهو انحياز مبطّن لروسيا، طبيعي لأسباب كثيرة، أما انحياز النخب، فيدلّ على عطب سياسي كبير يشير إلى طبيعتها الاستبدادية، ومعادلتها الصفرية، وانتظامها خارج حركة النضال الديمقراطية في العالم.

تتعرض الديمقراطية في العالم إلى هجوم داخليّ عليها، تمثّله تيارات اليمين المتطرف والعنصريّ، والتي تشكل حليفا داخليا لبوتين والبوتينية في العالم، كما هي حليف لأنظمة الاستبداد العربي، أما انحياز النخب العربية المعارضة، فيبدو عطبا استراتيجيا لا شفاء منه.