قام البلاشفة، المنتصرون في ثورة 1917، بقرارات وأعمال عديدة تعبيرا عن عدائهم الشديد للدين. أحد هذه الأعمال كانت نبش أضرحة قديسي القرون الوسطى بغرض التدقيق العلمي لإثبات أن روائحهم الذكية، وحكاياتهم المبكية، وأجسادهم التي لا تتعفن، ليست سوى عظام وغبار. تمت العملية امتثالا لتعليمات أصدرتها وزارة العدل السوفييتية، تأمر بوقف “الديانة التي تعبد أجساد الموتى والدمى”.
سُحب ذلك القرار من التطبيق بعد أن تعرض لينين زعيم البلاشفة في الحزب الشيوعي الروسي، في كانون الثاني/يناير 1924 للجلطة الأخيرة التي أودت بحياته. تم استيراد براد عملاق من ألمانيا لحفظ الجثة، وبدأت “لجنة التخليد” العمل الذي استمر ستة أشهر، جاهدة لوقف التعفن في أنف لينين وأصابعه، ثم لتحنيط جثة الزعيم الراحل، وتحويلها إلى ضريح مقدس. كان ذلك إعلانا رمزيا هائلا عن استبدال ديانة بأخرى، مع تغيير شكلي في الطقوس. اسم الديانة الجديدة لشعوب الاتحاد السوفييتي وأتباع الأحزاب الشيوعية في العالم صار الماركسية ـ اللينينية (ثم، عمليا، الستالينية).
بعد الحرب العالمية الثانية، ظهر بشكل غير مقصود ومزعج للسلطات، ضريح آخر يمثّل الوجه الآخر للشيوعية: آلاف الجثامين التي حفظتها الثلوج لسجناء ماتوا أو أعدموا في مركز اعتقال ستاليني في منطقة تدعى كولايما. تحوّل الجبل إلى برّاد طبيعي عملاق، واحتفظت العيون بألقها، والأنوف والأصابع والأقدام بالجلد واللحم. توجهت بلدوزرات الدولة السوفييتية إلى الموقع وقامت بتجريف الجثث إلى ركام كبير دُفن في مقبرة جماعية أخرى.
من البعث إلى الفردوس الشيوعي
تمثل مواقف الشيوعية، وتنظيرات مؤسسيها، حول الدين، مفارقة منطقية كبرى.
كانت المواقف تلك واضحة في مناهضة الأديان. حسب “البيان الشيوعي” الذي كتبه ماركس وأنجلز، فإن “الشيوعية تلغي الحقائق الثابتة، تلغي الأديان والأخلاق بدلا من تجديد تشكيلهما”، أما لينين، فيقول في رسالة إلى الأديب الروسي مكسيم غوركي: “كل فكرة دينية، كل فكرة عن الله هي شر من أخطر الأنواع. ملايين الأخطاء، والأفعال القذرة، أعمال العنف والعدوى الجسدية… هي أقل خطرا من الفكرة الروحية الهادئة لله”، ورغم أن اعتبار ستالين “منظّرا” أمر مثير للسخرية، لكن من المفيد بهذا الخصوص، تذكر بعض أقواله مثل: “كم فرقة عسكرية لدى البابا؟”، و”يجب تمزيق عيني الشخص الذي ينظر إلى الماضي”! لم يكن الأمر أقوالا فقط، حسب سجلات الكنيسة الروسية فإن 2691 قسيسا و1962 راهبا، و3447 راهبة قتلوا في عام 1922 وحده.
تتمثل المفارقة الكبرى في أن البنية الأساسية للشيوعية التي نظّر لها ماركس وأنجلز كانت دينية. بهذا المعنى، فإن “البنية الفوقية” للشيوعية، إذا استخدمنا الاصطلاح الماركسي، هي بنية مثالية، على عكس ما كان منظرو الشيوعية يزعمون. تشكل أطروحة الفردوس الشيوعي، الذي سيتلو ديكتاتورية البروليتاريا وإلغاء الطبقات (وهما أيضا فكرتان غير قابلتين للتطبيق) فكرة دينية. لقد استبدل ماركس القادم من عائلة يهودية اعتنقت المسيحية، وأنجلز القادم من عائلة بروتستانتية، القيامة والبعث اللذين سيشهدهما مؤمنو الأديان بقيامة أخرى يتلوها نشوء مجتمع مثالي على الأرض، حين تفرض الطبقة العاملة (التي هي المهدي المنتظر أو المسيح المخلص) عقيدتها على البشر. تعيد الماركسية أفكار الأديان حول اشتراك البشر في الممتلكات المادية، وبدل الفقراء والمقهورين، الذين يعظهم المسيح على الجبل، ويقسم بينهم، بمعجزة، سمكتين وخمسة أرغفة، فيشبعون جميعا، تقوم “معجزة” الشيوعية، على مصادرة الملكيات الخاصة وتوزيعها على البشر، وبناء الفردوس الأرضي.
أنبياء الماركسية الكثر!
لا عجب، والحالة هذه، أن يسمي كاتب يدعى شومبيتر، ماركس بالنبي، وهو ما فعله كتاب آخرون في وصف لينين، وفعله إسحق دويتشر في ثلاثيته الشهيرة عن تروتسكي: النبي المسلح، النبي الأعزل، والنبي المنبوذ.
غير أن الماركسية، في التطبيق الشيوعي لها، تتجاوز فكرة الإله، الذي هو مركز الأديان، في منعها لأي تفريع أو اجتهاد أو امتياز لشخصية أخرى غير التجسّد الإلهي الجديد، ممثلا في الزعيم الشيوعي، وفي قدرته على السيطرة على المكان والبشر. يقول مارتن إيميس في كتابه “كوبا المرعب” إن الاتحاد السوفييتي بعد عام 1929 صار انعكاسا لعقل ستالين. وفي الفترة 1945 – 1953 صارت البلاد كلها تتعرض، لما يتعرض له عقل ستالين، للتصدّع، التجلط، ضربات خفيفة، تهويم محموم، إغماءات. ترافق ذلك مع مزيد من الإعدامات، النفي، مؤامرات اختراع المؤامرات، والزج بملايين آخرين إلى مراكز الاعتقال الجماعية الممتلئة.
جعلت هذه المفارقة العظيمة، من الشيوعية التي تناهض الأديان، لكنها تصنع دينا قسريا يريد تغيير طبيعة البشر، خزانا هائلا للعنف المستمر، وجعلت استمرارها، كدين، غير ممكن.
مثير للتأمل، إن لم يكن للسخرية والتفكّه، لتمثيل هذه الحالة استذكار أن الخطوة الأولى التي قام بها غورباتشيف، بعد انتخابه أمينا عاما للحزب الشيوعي السوفييتي، أنه قام بتفكيك أدوات التجسس التي زرعتها المخابرات السوفييتية في بيته وحديقته، وهو أمر لم يكن يستطيع فعله لو لم يصل إلى الدرجة العليا في سلّم السلطة!
كشف المفارقة الهائلة للعقيدة اللادينية التي أضحت دينا عالميا جديدا يفترض أن يساهم أيضا في كشف التهافت الكبير المتعلّق بآليات الخلاف الدائر بين العلمانيين، خصوصا الطائفة الأصولية ـ الاستئصالية بينهم، الذين يخوضون جهادا (أو حربا صليبية) تحت مزعم “نقد الفكر الديني”؛ مع طائفة الدينيين، وخصوصا الجماعة الثورية ـ الجهادية فيهم، التي تستبطن، من دون أن تعلم، الكثير من عقائد خصومها الأيديولوجيين!
القدس العربي
Be the first to write a comment.