«عالم سأكون فيه من الخاسرين. لن أحيط به. كان بلا نهاية» «الروائي إنسان متورط في الحياة، زُجّ به في رواية لا انتهاء ولا خلاص منها، سيغادر العالم وفي نفسه الشيء الكثير منها».

تقدّم هاتان الجملتان الواردتان في كتاب فواز حداد «لقد مررت من هذا العصر: تجربتي الروائية» مثالا على مكابدات الروائي، ومنسوب الصدقيّة العالية التي اجتهد في الحفاظ عليها، والتي هي أكثر ما تكون وضوحا في عمله الأخير هذا، الذي يقدّم إضاءة على اشتباك شغله الإبداعي مع العالم والعصر.

يمكن إدراج قصة حداد مع الكتابة الروائية ضمن خط الملحمة المستمرة للإنسان، الذي يجتهد لمعرفة أسئلة الحياة الكبرى، فهو يتابع، بمعنى ما، رحلة جلجامش للوصول إلى عشبة الحياة («تصبح الرواية انكشافا لسيرورة الحياة من الماضي إلى الحاضر») ومتاهة عوليس الطويلة للوصول إلى إيثاكا («لماذا الكتابة؟ أسئلة تأخذ الكاتب إلى متاهة»).

مسار يجهد الكاتب فيه كل الجهد ليكون «إنسانا في زمن لم تكن هناك أي قيمة فيه للإنسان». يعني ذلك، من جملة ما يعنيه، مكابدة أسئلة العمل الإبداعي، التي تتبدى، أحيانا، على شكل يأس شديد، واقتراب من ترك العمل الروائي، وتتبدى، مرات أخرى، على شكل انفراج يشبه الإشراقة الصوفية التي تحلّ لغزا صعبا. تتبدى المكابدة أيضا في نضال لـ«فهم العالم والحياة والعصر» وهو ما يفترض، بالضرورة، مجابهة الغيلان الثقافية والسياسية: الفساد الأخلاقي، وأشكال الاستبداد المتعددة في جوانب الاجتماع والسياسة والاقتصاد والثقافة والفن، وتناول قضايا العالم الكبرى، واشتباكها بقضايا السياسة والدين والثقافة.

يتعلّق حداد في بداياته، بالشعر، فيحب المتنبي وسعيد عقل وخليل حاوي والبياتي ونزار قباني ومحمود درويش، ثم بالمسرح، فيقرأ مئات المسرحيات ويكتب العديد منها، ويقارب أن يختار الكتابة المسرحية بشكل نهائي، ثم تجذبه السينما، فيحاول السفر لمصر لدراسة الإخراج السينمائي، ثم ينتهي به المطاف إلى الرواية، التي تحضر فيها خبراته السابقة كلها. الروائي يتصارع مع رواياته! يشرح حداد في كتابه، كيف أثرت خياراته السينمائية والمسرحية في رواياته: فهو يفكر في مواقف اجتماعية، وطريقة صياغتها، وحركة الممثلين، بأساليب مسرحية، وينظر للعالم بعين سينمائية، ورغم أنه يغفل ذكر أثر الشعر، فلا يمكن أن يغفل القراء عن حضور هذا الفن في عناوينه الرئيسية والداخلية التي تخترقها بلاغة الشعر، مثل: السوريون الأعداء، الضغينة والهوى، والمترجم الخائن، وجنود الله.

ينتبه حداد، بعد إنجازه رواياته الأولى الثلاث، أن ردود أفعال الصحافة السورية كانت غير إيجابية، ومحدودة جدا، فإحدى الصحف الرسمية خصصت صفحة كاملة لتنهال بالانتقادات على روايته الأولى، مع اتهامات له بأنه «مثقف سلبي، رجعي، برجوازي صغير» أما في «اتحاد الكتاب العرب» وهو المنظمة الرسمية للكتاب في سوريا، فقد وصف البعض الرواية بأنها «سياحية» وقام آخرون باعتبار «تياترو» «رواية تاريخية» من نموذج فات عليه الزمن من بعد جرجي زيدان، ولم تحظ «صورة الروائي» بقراءة إيجابية إلا بعد 20 سنة من صدورها.

ينبع هذا، إلى حد كبير، من كون النظام قد صنع ثقافة سائدة، قام المثقفون والكتاب والإعلاميون، إلا ما قلّ منهم، بالسير في ذيولها، والتنظير الأيديولوجي لها، ولو من مواقع يساريّة.

كانت الروايات، ضمن هذا السياق، عوالم ترحب به، كي لا يعتقد أنه «عالق في وسطٍ معادٍ يتجاهلني» وكانت، أيضا، شأنا شخصيا، فـ«الولد الجاهل» مثلا، كانت «بوحا سريا» يقول له إن الكتابة دافع وإخلاص وإقدام، دون أي مقابل مادي أو معنوي، وكانت «الضغينة والهوى» محاولة لفهم الالتباس مع «الثقل الغربي» الرازح، حضارة، من جهة، واستعمارا، من جهة أخرى. تصارع حداد، مع رواياته، التي تنفصل عنه بعد انتهاء كتابتها، مع مضي أبطالها إلى حيواتهم، كما يقتحم العالم تلك الروايات، كما حصل مع «السوريون الأعداء» التي كتبها خلال موجة الاحتجاجات في سوريا والعالم العربي. الروايات، بهذا المعنى، بناء لرأسمال معرفي بطريقة متدرجة، بالتوازي مع بناء عالم روائيّ يتوسع مع كل عمل وينخرط بشكل حميم في قضايا المجتمع والسياسة، والتاريخ والثقافة والفكر.

في عمله على «الضغينة والهوى» الذي تناول العلاقة مع الغرب، احتاج حداد للعودة لعشرات الكتب في مختلف أنواع المعرفة، ودفعه، بالتوازي، إلى قرار شخصي كبير، هو التفرغ للشغل الروائي منذ عام 2000، وهنا يظهر مجددا، الاشتباك الوجودي العميق، بين الشخصي والعامّ في علاقة فواز حداد برواياته.

روايات الثورة والحرب انتقل حداد بعد رواياته التي استخدمت التاريخ لفهم الحاضر، إلى معالجة الواقع الحاضر الذي هو «دليل على تاريخ صُنع برعونة» عبر روايات «مرسال الغرام» «مشهد عابر» و«المترجم الخائن» حيث يقوم في أولاها بلعبة تجمع بين الزمانين السوري والمصري، وفي الثانية، يذهب، دون تورية، إلى مكامن الفساد «حتى تكاد الشخصيات والأحداث تتطابق مع ما نعيشه» وفي الثالثة، يلتفت الروائي لأنواع المثقفين، من الانتهازي، والوغد، والرث، إلى المتغرّب الحائر. في رواياته التي تعرضت لظاهرة «الإرهاب» التي غدت من أهم القضايا مع بداية القرن، وهي «عزف منفرد على البيانو» «جنود الله» و«خطوط النار» خاض الروائي في مواضيع شديدة التعقيد أيديولوجياً وسياسياً، وتمكن عبرها، في رأيي، من تقديم خلفيات معرفية لتلك المواضيع تتفوق على أطنان من كتب البحث في تلك الظاهرة، التي تكتنفها إشكاليات الانخراط المباشر في المعارك، والسياسة والأيديولوجيا.

يفنّد شغل حداد الروائي، كثيرا من التنظيرات الأيديولوجية والتنميطات الفكرية لنظرائه من الروائيين، الذي يتعففون عن التعرض للحاضر أو للقضايا السياسية، أو يكبحون احتمالات العمل الروائي ويتجنبون الحقائق أو يخفونها، بحجج من قبل أن السياسة ليست شأن الأدب إلخ.

يضع الروائي المرحلة التي بدأت مع «السوريون الأعداء» تحت عنوان «روايات الثورة والحرب» ويقول إنه كتبها للإجابة على سؤال: لماذا قامت الثورة؟ لكنها، أيضا، استكمال لطريق اختطه منذ روايته الأولى. تابع حداد تعميق هذا الخط، مع «الشاعر وجامع الهوامش» و«تفسير اللاشيء» و«يوم الحساب». ضمن هذا السياق، وبعد الروايات الآنفة الأربع، يتحدث حداد عن روايتين أخريين مقبلتين: «النظام» ورواية أخرى ستكون عن المثقفين، وبذلك يستكمل حداد إطلالته النافذة على جوانب معقدة ومشتبكة جدا، تشرّح الاجتماع السوريّ في اشتباك قضاياه السياسية والدينية، وتجترح، في اعتقادي، إجابات روائية هائلة لمسائل حار فيها المفكرون والكتاب السوريون والعرب، وما زالوا، على مدى عقود.

تشكّل الروايات، بهذا المعنى، منجما كبيرا للبحث والشغل عليها، لأنها توسّع، في اعتقادي، إمكانيات الرؤية والتفكّر. يتناول الكتاب بانوراما واسعة من المواضيع التي تخص الكتاب والروائيين على وجه الخصوص، ورغم قول الكاتب، على خصاله في التواضع، لقارئه «أنس هذا الذي قرأته» فإن الحقيقة إن الكتاب سيكون مرجعا أساسيا لفهم العمارة العظيمة التي أسسها فواز حداد في الأدب الروائي العربي، كما سيشكل خلفيّة معرفية لقراءة واقع منطقتنا، ناهيك من كون الكاتب نموذجا فذا للعلاقة الوجودية العميقة بين الكاتب وأعماله.

القدس العربي