أوكرانيا اليوم هي كل دولة في العالم مهدَّدَة بالغزو والاحتلال لأنها في موقع خاطئ على الخريطة. عندما تجيز أي دولة عظمى لنفسها اجتياح بلدٍ جارٍ، بذرائع ملفّقة، فإنها لا تسحق القانون الدولي بأقدام جنودها فحسب، بل تنتهك في 2022 كل مفهوم حضاري أمكن للبشرية أن تخلّقه، وتغلّب الاستحواذ بالقوة على مصائر الشعوب، تكتب انبعاثاً جديداً للديكتاتوريات، وتنشر الخوف وانعدام اليقين والثقة في كل الأرجاء، وأخيراً تسوّغ لأي دولة أصغر منها أن توظّف أحقادها وعقدها التاريخية وأن تسخّر كل مواردها للتحكّم ببلدان أخرى لديها من تناقضات اجتماعية أكثر مما لديها من ثروات تحرص عليها. أن تعود الحرب الى أوروبا يعني أن تعود الى العالم، الذي سيتأثّر بشكل أو بآخر، ليس فقط بالأسلحة الموصوفة بالدمار الشامل التي يُرى أثرها، بل أيضاً بالعقوبات التي غدت أسلحة أكثر فتكاً وتتمثّل مفاعيلها بالنَيل من حياة الفرد وكفاحه من أجل حريته وعيشه السويّ.

من الأسئلة التي طُرحت في الأيام الماضية: لماذا يُراد إحياء الاتحاد السوفياتي وما الذي افتقده العالم فعلاً في غيابه، وهل يستحق إحياؤه أن تغزو روسيا بلداً تعرف أن شعبه يرفضها ويكرهها ولن يتغيّر تجاهها أياً تكن ظروفه، ولماذا يجب أن يكون جيران روسيا تحت قدرها وإرهابها أو تحرمهم أبداً من الاستقرار، وهل أن قرار الغزو كان محسوماً لدى الرئيس الروسي فتعمّد طرح مطالب تعجيزية بعرف مسبقاً أن الغرب لن يلبيها، بل لا يستطيع؟

وأيضاً: لماذا لم تبذل دول حلف الأطلسي الجهد الجديّ الضروري لتجنّب الحرب مع علمها بأنها ستنعكس على اقتصاداتها وحياة شعوبها، وإذا كان بين أهدافها استدراج فلاديمير بوتين الى الخطأ والتورّط فهل هي واثقة بأنه لن يُقدم بدوره على ارتكاب الفظائع ليستدرجها بدوره الى حروب أخرى في أوروبا، وطالما أنها لا تريد الحرب لماذا تبرّعت بالإعلان مسبقاً أنها لن تستخدم “الردع” ولن تتدخّل للدفاع عن أوكرانيا فهل كانت تطمئن بوتين أم ترمي إليه بالطُعم أم تسهّل له المهمة، وما دام السلام الدائم سيتطلّب التفاوض في نهاية المطاف فلماذا استسهلت ترك بوتين يعبث بلعبة الحرب بدل أن تحرجه بعروضٍ بديلة؟

الحرب التي ردّدت عواصم الغرب أن “لا داعي لها” أسفرت الآن عن نتيجة معروفة سلفاً، بل باتت واقعاً ميدانياً، وهي تتمثّل بغلبة قد تكون موقّتة أو دائمة لميزان القوى العسكرية، وبصدامٍ بين قوميّتين: الأولى روسية يراها العالم نيو-سوفياتية يقودها حاكم فرد لإخضاع الغرب وإعادة “الإمبراطورية”، مستوحياً جوزف ستالين الذي غزا أوكرانيا، ومختزلاً في شخصه ديكتاتورية الحزب الواحد واستبداد النظام الملكي ما قبل الشيوعي. القومية الأخرى أوكرانية تتوسّل الشعبوية للدفاع عن نفسها في بلد لم يبرأ من أمراضه السوفياتية، لكن بوتين وأعوانه يصوّرونها، تبريراً للغزو، على أنها نيو-نازية تستوحي ممارساتها من الفكر الهتلري، إلا أن هذه الذريعة البروباغندية تبدو مرادفاً لتهمة الإرهاب الجاهزة (تتسلّح بها إسرائيل لتغطية جرائمها ضد الفلسطينيين، ولجأ إليها النظامان الأسدي والإيراني لتبرير القضاء على ثورة الشعب السوري).

قد لا تصحّ المقارنات دائماً، خصوصاً إذا كان اللاعبون والساحات متفاوتي الحجم دولياً، لكن الخبراء العسكريين يقرأون أي حرب ومقدّماتها ومآلاتها وانعكاساتها المحتملة في ضوء التجارب المعروفة. ويذكر في هذا الإطار أن ردود الفعل الأميركية المسبقة ربما صوّرت للرئيس العراقي السابق صدّام حسين عام 1990 أنه يمكنه أن يغزو الكويت ويحتلّها من دون أن يتعرّض لأزمة كبرى ترتدّ على نظامه وعلى العراق، لذلك قيل له أنه أخطأ في حساباته، إذ هزم وطُرد من الكويت، وكُبّل العراق بعقوبات قاسية مهّدت لغزوه واحتلاله (2003) ولم يخرج من تحت البند السابع الأممي إلا قبل أيام، لكن في الأثناء كانت أسوأ النتائج قد عصفت بالعالم العربي وأضعفته ثم أدخلته في خواء استراتيجي مستمر.

عدا التشابهات الشخصية والعقلية بين الاستبداديين، قد يكون التفصيل الوحيد الذي يصحّ استرجاعه حالياً هو أن الرئيس الروسي استخلص من المواقف الملتبسة، الأميركية والأطلسية، أنها تشجّعه على اجتياح أوكرانيا، ولو جزئياً (الاكتفاء بالـ “جمهوريتين” الانفصاليتين، مثلاً)، طالما أن “الناتو” وواشنطن كرّرا علناً أنهما لن يتدخّلا، أما العقوبات التي تفُرض على روسيا فتنمّ في نظره عن “ضعف” غربي وستكون أيضاً موجعة للاقتصادات الغربية. غير أن الاختلاف الكبير هو أن روسيا دولة كبرى لا تشبه سوى دولٍ بحجمها وقدراتها، وأن بوتين لا يزال يرى مسألة أمن روسيا بمنظار سوفياتي أكبر وأوسع من إقليم دونباس الاوكراني.

يريد بوتين كل أوكرانيا ليجعل منها “دولة محايدة منزوعة السلاح”، وبالتالي دولة فاصلة عن منطقة نفوذ “الناتو”، لكن وجودها تحت سيطرته الكاملة يعني أنه يرمي الى استخدامها لابتزاز “الناتو” وتهديد أعضائه من الدول الأوروبية (السوفياتية سابقاً). لم يرَ بوتين أن الترابط الواسع لمصالح روسيا الاقتصادية والمالية، الذي نشأ طوال العقود الثلاثة الماضية مع الدول الغربية، يفترض استراتيجية تعايش، بل ظل يهجس بمعادلات القوة، وهذه ليست فقط عسكرية ولا يمكن أن تكون لمصلحته.

من الواضح أن الدول الغربية فرضت تلك العقوبات على مضض، لكنها اعتبرتها “تضحية” لا بدّ منها وتبقى أقلّ كلفة من الانخراط في مواجهة حربية مباشرة. هذا لا يبدّد مناخ الحرب الذي سينعكس عليها كدول (تضخّم ميزانيات الدفاع) وعلى شعوبها المطلوب منها أن تتحمّل الأكلاف. أما أوكرانيا التي جعلها قدرها “دولة تماس” فلن تعود الى ما كانت عليه قبل 2014 ولا حتى قبل 24 شباط (فبراير 2022، إذ دخلت نفقاً طويلاً مظلماً، وأمامها سيناريوان متداخلان يطيلان أمد الحرب. أولهما الرزوح تحت نير الاحتلال الروسي، بما يعنيه من استسلام جيشها وتفكيكه وإقامة حكم موالٍ لموسكو وإجراء جراحة شاملة لـ “تطهير” الدولة العميقة من القوميين الاوكرانيين، لكن ذلك يتطلّب وجوداً روسياً دائماً ومكلفاً وليس فقط الاعتماد على روس اوكرانيا. أما السيناريو الآخر فهو المقاومة وحرب العصابات المفتوحة، وهناك مؤشرات الى أن عناصرها وأسلحتها موجودة وأن خططها مدروسة مسبقاً. ويبدو أن “الناتو” يراهن على هذه المقاومة كخيار استنزافي سبق أن جُرّب في أفغانستان وألحق هزيمة بالقوات السوفياتية.