المشهد ليس مكتملاً لكنه يستحق التوقف عنده لما في طياته من مؤشرات لافتة لجهة الفعاليات السبّاقة للدول الخليجية العربية وتطوّر علاقاتها الدولية مقارنة مع انزلاق الجمهورية الإسلامية الإيرانية في متاهات قمع التظاهرات الشعبية والتورّط في شراكة عسكرية مع روسيا في الحرب الأوكرانية. المشهد لافت من القمم المتنوّعة في السعودية الاستراتيجية والاقتصادية والفنية، الى وصول قداسة البابا فرنسيس الى البحرين في لحظة تاريخية في ملتقى البحرين للحوار بعنوان “الشرق والغرب من أجل التعايش الإنساني” بمشاركة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف، الى توقيع الإمارات شراكة استراتيجية مع الولايات المتحدة لاستثمار مئة مليار دولار في إنتاج الطاقة النظيفة لتعزيز أمن الطاقة ودفع التقدم في العمل المناخي في إطار “الصداقة الوثيقة” بين واشنطن وأبوظبي.

وبين أهم التطورات هذا الأسبوع أن الولايات المتحدة والسعودية ودول مجاورة رفعت من حالة التأهب بصفوف قواتها العسكرية وسط معلومات استخبارية مشتركة من واشنطن والرياض تشير الى أن طهران ربما تخطط لهجوم وشيك على منشآت للطاقة في المنطقة وتحديداً في السعودية. وهذا دفع المتحدّث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي جون كيربي الى القول: “نحن قلقون من التهديدات… ولن نتردد في التحرك دفاعاً عن مصالحنا وشركائنا في منطقة الخليج”. فإيران مرتبكة هذه الأيام بسبب الانتفاضة على قمع النظام والدعم المعنوي الذي تتلقاه نساء إيران في المحافل الدولية. مرتبكة أيضاً لأن واشنطن تهيّئ لها المزيد من العقوبات قصاصاً على امداداتها العسكرية الى روسيا في حرب أوكرانيا وبما قد يشمل إجراءات اعتراض هذه الإمدادات.

لكن “الحرس الثوري” الإيراني ليس في حال ذعر وإنما هو مرتاح لما أنجزته الجمهورية الإسلامية الإيرانية من مصالح لها في العراق تشمل سيطرتها على مفاصل الحكومة في بغداد وولاء رجال الحكم في العراق لرجال طهران. ثم هناك انتخاب بنيامين نتنياهو رئيس وزراء لإسرائيل الأمر الذي قد يساهم في تهدئة العلاقة الروسية – الإسرائيلية بسبب العلاقة الشخصية القديمة بينه وبين الرئيس فلاديمير بوتين، الأمر الذي ينعكس على العلاقة الإيرانية – الإسرائيلية وقد يريح “الحرس الثوري” قليلاً.

في البدء، محطة ترحيب البحرين بالبابا فرنسيس وبشيخ الأزهر وليس مجلس حكماء المسلمين الدكتور أحمد الطيب، بدعوة من الملك حمد بن عيسى، الى “ملتقى البحرين” الذي شارك فيه قادة روحيون من مختلف الطوائف والأديان والمذاهب للحوار. الزيارة التاريخية للحبر الأعظم واحتضان البحرين لأكبر كاتدرائية كاثوليكية في منطقة الخليج العربي في مدينة عوالي إنما ألقيا الضوء على أهمية مسيرة إنماء وتكثيف العلاقات المسيحية مع العالم الإسلامي. وهذا ضروري في زمن التوتر الطائفي ونمو التطرّف الديني في مختلف بقع العالم.

فصل الدين عن الدولة يبقى من أكبر التحديات في منطقة الشرق الأوسط – الأمر الذي يبدو مستحيلاً في الجمهورية الإسلامية الإيرانية كما لليمين المتطرّف في إسرائيل. كلاهما يتوافق على فرض الدين على الدولة، في الدولة اليهودية كما في الجمهورية الإسلامية في إيران. الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة أكّدت هذا التوجه، والحكم الديني في طهران مستمر حتى اشعار آخر في ثيوقراطية ساهمت في إعادة إيران العظيمة نصف قرن الى الوراء.

بنيامين نتنياهو سيزداد تطرّفاً ضد الفلسطينيين لكنه لن يتمكّن من التملّص الكامل من كل التزامات الحكومة السابقة، وبالذات اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل. وبما أن علاقة رئيس الوزراء الإسرائيلي المنتخب مع الرئيس الروسي كانت ممتازة، من المفيد مراقبة كيفية تطوّر العلاقة الروسية – الإسرائيلية في عهد نتنياهو الجديد، بالذات في الحرب الأوكرانية، وما يترتّب على ذلك من انعكاسات على العلاقة الروسية – الإيرانية – الإسرائيلية.
إيران لن تتمكن، ولن تريد، أن تتملّص من علاقاتها الاستراتيجية مع روسيا. فهي تدرك أن أدوارها الإقليمية، بالذات في سوريا، مرتبطة بروسيا. وهي لن تتوقف عن المشاركة في الحرب الأوكرانية إلى جانب روسيا حتى وإن وقعت تحت المزيد من العقوبات الأميركية أو واجهت إمداداتها العسكرية الاعتراض القسري الأميركي.

اللافت أن إدارة بايدن لم تعلن أن الصفقة لإحياء الاتفاقية النووية JCPOA ماتت كليّاً بالرغم من التوتر في العلاقة الأميركية – الإيرانية بسبب دور إيران في الحرب الأوكرانية بالدرجة الأولى، وبسبب القمع للاحتجاجات الداخلية في الدرجة الثانية. الرسائل العلنية وتلك وراء الكواليس تفيد إما أن هناك خلافات في صفوف إدارة بايدن، أو هناك توزيع أدوار، حول تصنيف أين تقع مفاوضات إحياء الإتفاقية النووية. في أفضل الحالات، انها في موت سريري ولا أحد يجرؤ على ضخ الحياة فيها حالياً، فيما طهران تساند روسيا في أوكرانيا عسكرياً.

الأمر الآخر اللافت هو تلك المعلومات الاستخبارية التي كشفت عن رفع حالة التأهب السعودية والأميركية بسبب معلومات عن تخطيط إيران لهجوم وشيك على منشآت الطاقة وبالذات في السعودية لتحويل الأنظار عن تطورات الداخل الإيراني والتي تقول طهران إن الرياض تشجّعها عبر تغطيتها الإعلامية. وإذا قررت طهران المغامرة بهجمات، فإنها بذلك تستدعي الرد الأميركي ليس عبر حرب أميركية عليها وإنما عبر زخم فاعل في العلاقة الأميركية – السعودية والأميركية – الخليجية الأمنية.
فواضح أن إدارة بايدن اليوم قررت استدراك أي تدهور في علاقاتها مع الدول الخليجية العربية، لا سيّما الأمنية، بعدما تعرضت تلك العلاقة لأكثر من اهتزاز لأسباب ذات علاقة بالطاقة، ومبيعات الأسلحة، والثقة المتبادلة.
0 seconds of 0 secondsVolume 0%

على صعيد العلاقات مع دولة الإمارات، فإن “الشراكة الاستراتيجية” مع الولايات المتحدة وقّعها المبعوث الخاص للرئيس الأميركي، آموس هوكشتاين بوجود المسؤول الأول عن الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي الأميركي برت ماكغيرك، ووزير الصناعة والتكنولوجيا المتقدمة، سلطان الجابر، في حضور رئيس الإمارات الشيخ محمد بن زايد آل نهيان. وفي الأمر أكثر من دلالة. فالطرفان تحدّثا عن أن “التحالف الاستراتيجي الوثيق بين دولة الإمارات والولايات المتحدة”، حسب تعبير هوكشتاين، في قطاع الطاقة وفي بناء “مستقبل أكثر استدامة”.

الأسبوع الماضي، وأثناء مؤتمر FII في الرياض، كان واضحاً أن القطاع الخاص الأميركي، وبالذات قطاع المصارف الكبرى، لم يتوقف عند الأزمة بسبب “أوبك بلاس” مع السعودية وإنما أخذ على عاتقه إبراز متانة العلاقات الأميركية – السعودية وأهميتها الاستراتيجية. ثم إن إدارة بايدن أبلغت السعودية بطرقها الخاصة، أن التصعيد أتى كضرورة في ظل حماسة الكونغرس ضد إجراءات “أوبك بلاس” إنما ليس في الأمر أي عزم على مراجعة العلاقات الأميركية – السعودية.

إذن، وفيما يتم توطيد التعاون الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والدول الخليجية العربية، توطّد إيران تحالفها الاستراتيجي مع روسيا في عزّ التصادم بين الغرب وروسيا بسبب الحرب الأوكرانية. هذا من جانب. ومن ناحية أخرى، وفي عزّ الإجراءات الإيرانية القمعية ضد المواطنين عامة والنساء بخاصة، تعكف الدول الخليجية العربية على الإصلاحات، وتطوير البنية التحتية الاجتماعية، والانفتاح، والتواصل بين الأديان. هذه الخطوات، على أهميتها، تبقى مجرد البداية. وما يستلزمه الأمر هو مسيرة ثابتة متماسكة وطويلة من الاصلاح الجذري.

الأنظار تتوجّه الآن الى طهران لجهة ما إذا كانت ستنفّذ عمليات ضد السعودية أو أنها تراوغ لإبلاغ واشنطن رسائلها على أمل أن تخفف إدارة بايدن من الضغوط عليها وتفتح الباب على العودة الى المفاوضات النووية.

مصدر مقرب من صنّاع القرار في طهران قال إن طهران بعثت مسيّرات متفوقة الى الحوثيين في اليمن استعداداً لشن هجمات حوثية على المصالح السعودية وتحديداً في الموانئ والمنشآت النفطية.

رهان طهران هو على أن إدارة بايدن لن تتمكّن من دعم السعودية قبيل الانتخابات النصفية وأن خياراتها الأمنية محدودة وستأتي متأخرة، على أي حال- بعد الهجمات. رهانها هو أن انشغال الولايات المتحدة بالتطورات المخيفة بين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية سيكبّل أياديها لأنها لن تتمكن من التعاطي مع أزمتين في وقت واحد، وبالتالي لن تتخذ إجراءات ضد إيران.

فرجال طهران يريدون إيصال رسائل بأنهم قادرون على الانتقام في حال عدم احترام مصالحهم المتمثّلة في إحياء الاتفاقية النووية ورفع العقوبات عنهم. ما يريدونه هو تحويل الأنظار عما يحدث داخلياً في إيران- وليس أفضل من إجراءات عسكرية ضد السعودية ودول خليجية أخرى لتحقيق ذلك.

إنما حتى في ظل ذلك التصعيد يبقى المشهد على حاله، وخلاصته أن طهران مرتبكة ومتورطة وتخشى أن يصيبها الذعر الاستراتيجي، إذا استمرت الأمور في اتجاهها الحالي.

النهار العربي