نداء من قبل اليسار الأوكراني والروسي والبولندي
على أنه من السهل الخروج من هذه المعضلة الزائفة: فما على المرء إلا الإصغاء إلى المنخرطين في الصراع اليوم، بخاصة الأصوات الأوكرانية والروسية والبولندية التي تتشاطر الالتزامات الاشتراكية والمناهضة للإمبريالية مع اليسار الأوروبي الجذري. بالنسبة لهؤلاء، مثلما كانت بخصوص التدخل الروسي في سورية (اقرأ مقالة الرأي التي كتبها المؤلف والناشر السوري الفرنسي فاروق مردم بيك في ميديا بارت)، ليس ثمة نقاش، هذا إلا إذا كان المرء يتواطأ مع سيطرة إجرامية وقمعية جديدة.

هذه هي مقاربة الحركة الاجتماعية، وهي منظمة سياسية في أوكرانيا تجمع بين نقابيين ونشطاء من منظمات اليسار السابقة المتنوعة. في سياق تنديدها بـ«انبعاث الإمبريالية الروسية»، أطلقت المنظمة نداء إلى «اليسار الدولي» تدعوه لأن يُدين السياسات الإمبريالية للحكومة الروسية وأن يُظهِرَ التضامن مع الشعب الذي يعاني من حرب دامت لنحو ثماني سنوات، والذي قد يعاني من حرب جديدة. يستطرد النداء: «للأسف، لم يترافق تدهور الإمبريالية الأميركية ببزوغ نظام عالمي أكثر ديمقراطية، بل بصعود ضوارٍ إمبريالية وحركات قومية وأصولية. ضمن هذه الشروط يتعين على اليسار الدولي الذي اعتاد أن يقاتل ضد الإمبريالية الغربية فقط أن يعيد النظر في استراتيجيته… فمثلما كانت الامبراطورية الروسية في القرن التاسع عشر هي قوات الجندرمة في أوروبا، فإن نظام بوتين هو اليوم الحاجز دون تغيرات اجتماعية وسياسية في الفضاء ما بعد السوفييتي».

في مقابلة مع اليومية السلوفينية دنيفنيك، أخذ إيليا بودريتسكيس، المؤرخ الروسي الذي يعيش في موسكو والذي يبقى صوتاً لليسار الناقد لنظام بوتين، موقفاً مشابهاً. يقول: «لقد فقد اليسار الأوروبي الاهتمام بالأممية. إنهم يرون العالم صراعاً بين الإمبريالية الأميركية وأولئك الذين يعارضونها». ويضيف: «ومن المفاجئ أن نجد بينهم متعاطفين مع بوتين لأنه يقاوم الإمرة السياسية للولايات المتحدة. على ضوء الصراع في أوكرانيا، يبدو لي أن هناك حاجة ملحة إلى تجديد المقاربة الأممية لليسار الأوروبي فيما يخص السياسة الدولية».

وبظُرف لطيف، يستطرد بودريتسكيس محذراً: «من شأن ذلك [تجديد المقاربة] أن يكون مفيداً لنا جداً [في روسيا]. فنحن اليوم في وضع أسوأ ممّا أثناء الحرب الباردة». لماذا؟ لأن «أخلاقية المسؤولية3 قد أهدرت من قبل الطرفين كليهما»، بحسبه. ثم لأن روسيا بوتين، خلافاً للاتحاد السوفييتي أثناء الحرب الباردة، «لا يمكنها أن تعرض بديلاً إيديولوجياً أو سياسياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً للنظام الأميركي».

ومن بولندا، ثمة أخيراً هذا الخطاب إلى اليسار في الغرب: «ليس عليكم أن تحبوا الناتو، لكن روسيا ليست الطرف الأضعف أو الواقع تحت التهديد أكثر من غيره». هذه الكلمات جاءت من حزب رازم اليساري الذي يعني اسمه: معاً، والذي تُماثِلُ سياسته سياسة بوديموس في إسبانيا، ومن بعض الأوجه سياسة الحزب اليساري الجذري الفرنسي: فرانس إنسوميز [فرنسا الأبية].

كتب أربعة من قادة الحزب البولندي: «طوال عقود صورت روسيا نفسها ضحية قوى معادية تهدد أمنها. الوقائع تناقض ذلك. بجيشها القوي وترسانتها من الرؤوس النووية وطموحاتها الإمبريالية، روسيا هي التي تحاول فرض ما تريد على البلدان المجاورة، وهي من يتعين على اليسار أن يعارض».

وباختصار، ليس هذا زمن المساومة في مواجهة الإمبريالية الروسية الجديدة. كل موقف يعامل المتخاصمين كمتساوين، كمخاطر متساوية، يَؤول في المحصلة إلى التقليل من شأن الواقع الجديد والمخاطر المعنية. وفي المحصلة، لا يمكن للردّ أن يكون انسحاباً إلى القلعة القومية، أو تبنياً لموقف محايد وهمي بذريعة عدم الانحياز. حين نُواجَه بخطر على هذا المستوى، ليس ثمة رد غير التنسيق مع أمم أخرى، أي الأممية التي مَهَّدَ التخلي عنها الطريق لليسار الأوروبي ليعود إلى قومية تحفزها الهوية ومعاداة الأجانب. وهي القومية التي تمهد بالنتيجة لإمبريالية متسلطة ومحاربة.

علاوة على ذلك، تُظهِر أصول نظام بوتين على ما جرى تبيانها أعلاه كيف أن أي غموض بشأنها ينتهي بإهمال انشغال تحرري أساسي وما يتصل به من صراعات ومطالب: الديمقراطية. يمثل التسامح مع الحكومة الروسية الحالية مؤشراً على اهتمام محدود بقضية الحرية، على ما يدلل داعمو روسيا من اليمين المتطرف. لا بل إن هذا التسامح يدل على افتتان بالحكومات التسلطية.

مُجادِلاً ضد مثقفي اليسار الذين أحجموا عن الوقوف مع الحكومات التي قاومت النازيين في بدايات الحرب العالمية الثانية في 1941، أقرّ جورج أورويل بسعادة بكل نواقص النظام البريطاني الذي كان امبراطورية حتى ذلك الوقت. صرَّحَ أورويل في مقالته «الثقافة والديمقراطية»، مثلاً، بأنه «بعد كل شيء، إذا كان الألمان قساة مع البولنديين، فسلوكنا نحن [البريطانيين] لم يكن لطيفاً مع الهنود». لكنه قال ذلك من أجل أن يوضح نقطة محددة: في حين أن من المهم تثبيت أن جريمة هي جريمة ولا شيء آخر، سيان ارتكبتها ديمقراطية أم دكتاتورية، فإنه ما من تساوٍ بين النظامين، إذ أن أحدهما يسمح بالاعتراض عليه فيما يحظر ثانيهما ذلك. «في بلد كهذا [انكلترا]، نحن لا نخشى أن ننصب قاماتنا ونقول ما نعتقده»، قال أورويل.

ليس هناك ما هو أكثر إلحاحاً من دعم أولئك الذين يقاومون عدوان الإمبريالية الروسية الجديدة، ومساعدتهم والدفاع عنهم، بما في ذلك بالسلاح. وهذا من أجل أن يستطيع الشعب الأوكراني اليوم، والشعب الروسي غداً، والشعوب الأخرى من وسط أوروبا وشرقها، نصب قاماتهم وقول ما يفكرون به، أن يختاروا بحرية مصيرهم الخاص.

ترجمة موقع الجمهورية