صراعات الرؤى بين الدول الأساسية كالولايات المتحدة والصين، لطالما اتخذت من الطاقة والبنى التحتية الأمنية عناصر أساسية في مسيرة التموضع لا سيّما في عالم جديد أفرزته الحرب الأوكرانية. اللافت هو الأدوار المتنامية لدولٍ مثل أستراليا والهند والسعودية في تركيبة النظام العالمي الآتي.

الكل يسأل: كيف ستقود الولايات المتحدة النظام الجديد وما هو تصوّرها للمساهمات الإقليمية فيه؟ ما هي البنية الأمنية الجديدة لأوروبا بعد تدمير البنية القديمة؟ ما هو شكل المواجهة مع الصين اذا استمر التوتر وإذا ردّت الصين على الميكانيزم الأمني الثلاثي الذي يجمع الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا بإجراءات نحو تايوان على نسق إجراءات روسيا نحو دونباس في أوكرانيا؟ كيف سيتعاطى العالم مع تحديات كوريا الشمالية النووية وآخرها إطلاق صاروخين بالستيين هذا الأسبوع وسط حبس الأنفاس خوفاً من تجربة نووية محتملة؟ ماذا بعد سياسة “الأرض المحروقة” التي تتبناها روسيا في حربها الأوكرانية؟ كيف ستتطوّر العلاقات الروسية – الإيرانية – الإسرائيلية إذا سلّمت إسرائيل أسلحة الى أوكرانيا؟ ماذا سيفعل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الآن وما هي آليات رؤيته لمعركته المصيرية مع الغرب؟

أثناء كلمته أمام نادي فالداي الدولي للحوار هذا الأسبوع، شدّد بوتين على أن الأزمة الحالية تطاول الجميع، وأن أمام البشرية طريقين، إما المضي نحو الانهيار أو العمل على نظام جديد معاً. قال إن الموقف في العالم يتوجّه نحو السيناريو الأسوأ وحذر الغرب من أن “من يزرع الريح يحصد الزوبعة”.

وبينما قال إن روسيا ليست عدواً للغرب وأنه من المستحيل بالنسبة إلى روسيا تطبيق سيناريو التدمير أو تحويله إلى أداة لتحقيق أهداف جيوسياسية، أكد رأيه أن فترة الهيمنة المطلقة للغرب على الشؤون العالمية تقترب من نهايتها، وأن العالم يمر بنقطة تحوّل تاريخية هي الأخطر والأهم من الحرب العالمية الثانية، وأن ما يحدث في النهاية سوف يكون في مصلحة روسيا ومستقبلها، وأن الغرب هو الذي أشعل الحرب في أوكرانيا وارتكب عدداً من الأخطاء المنهجية فيما حاولت روسيا بناء علاقات مع حلف “الناتو” وكانت رسالتها “فلنعش معاً”.

ما قاله الرئيس الروسي وأثار المزيد من المخاوف النووية هو طالما أن الأسلحة النووية موجودة، فهناك دائماً خطر من استخدامها، لكن رسالته المطمئنة قليلاً أتت في سياق التحدّث عن الحوار مع الولايات المتحدة وبقوله: نحن مستعدون لحل أي قضية. وكان اللافت في كلمته انتقاده عملية اغتيال قاسم سليماني من قبل الغرب على أراضي دولة ثالثة، وكأنه أراد أن يؤكد لحلفائه في طهران أنه لم ينسَ قضاياهم. فإيران حليف ميداني في حرب روسيا الأوكرانية كما كانت ولا تزال حليفاً ميدانياً في سوريا.

كلمة بوتين في فالداي تعطي فكرة عن رؤيته وتصوّره لدور روسيا في النظام العالمي الجديد علماً أنه عازم على المضي باستراتيجية السحق التام عسكرياً في أوكرانيا، اقتناعاً منه أن الغرب سيستسلم ويتخلّى عن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي.

الكلام الذي يردده البعض في المحافل الأميركية والدولية عن نوعٍ ما من وقف النار، كي لا تدمّر الحرب الأوكرانية الاقتصاد العالمي، كلام قد يعجب البعض في الكرملين لما قد يعنيه من حاجة الغرب الى وقف النار، لكن وقف النار فعلياً من وجهة نظر فلاديمير بوتين يعني الهزيمة. وهذه كلمة مرفوضة في قاموس الرئيس الروسي والمؤسسة الحاكمة في روسيا لأن المسألة مصيرية تتعلّق ببقاء نظام سياسي خلقه بوتين وليس ببوتين بمفرده.

روسيا “تمثل تهديدات خطيرة للمصالح القومية الحيوية للولايات المتحدة في الخارج وفي الداخل” لكن “التحدّي الأكثر شمولاً وخطورة للأمن القومي الأميركي هو المساعي الصينية المتزايدة والعدوانية لإعادة تشكيل منطقة المحيطين الهندي والهادئ”، بحسب “الاستراتيجية الشاملة” لوزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) والتي صدرت يوم الخميس الماضي. وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن قال إن استراتيجية الدفاع القومي تركز على الردع المستدام والمعزز تجاه الصين معتبراً أن بكين هي “المنافس الوحيد الذي يمتلك النية والقوة لإعادة تشكيل النظام الدولي”. أما روسيا، بحسب قوله، فبالرغم من أنها قادرة على “التهديد الحاد” إلا أنها “غير قادرة على تحدّي واشنطن على المدى البعيد”.

لدى الصين رؤية الى السنة 2050 وهي تأخذ في حساباتها أهمية بناء العلاقات مع اللاعبين الإقليميين في إطار وبما يتعدّى مشروع “الحزام والطريق”. الرئيس الصيني شي جينبينغ الذي بدأ ولاية رئاسية ثالثة يعتزم أن يزور السعودية قريباً حيث سيتم عقد ثلاث قمم، صينية – سعودية، وصينية – خليجية، وصينية – عربية. هذا ما أعلنه وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان خلال اجتماع لجنة الشؤون السياسية والخارجية المنبثقة عن اللجنة الصينية – السعودية المشتركة. وقال إن المملكة احتلت المركز الأول في ترتيب الاستثمار الصيني الخارجي في الثلث الأول من 2022.

العلاقات الخليجية مع الصين لا تعكس أبداً انحياز الدول العربية الخليجية بعيداً من علاقاتها التقليدية والتاريخية مع الولايات المتحدة وعلى رأسها العلاقات الأمنية. ترسيخ أطر وهياكل ومؤسسات العلاقات الأميركية – السعودية أمر تعمل عليه واشنطن والرياض بالرغم مما يبدو أنه أزمة بين البلدين بسبب الطاقة وقرار “أوبك بلاس” تخفيض إنتاج النفط بمليوني برميل يومياً.

فالسعودية لاعب إقليمي في إمكانه أن يكون محفّزاً enabler للنظام العالمي الجديد- وهذا أمر مهم للولايات المتحدة العازمة على أن تكون قائدة هذا النظام. من الطاقة الى الأمن. السعودية مساهم يؤخذ في الحساب لا سيّما أن الهياكل الأمنية وميكانيزم البنى الاقتصادية والأمنية ستكون مركزية في النظام العالمي الجديد.

0 seconds of 0 secondsVolume 0%
أثناء مؤتمر “مبادرة مستقبل الاستثمار” FII في الرياض هذا الأسبوع، لوحظ حضور قادة كبار المؤسسات المالية الأميركية ومشاركتهم بزخم إيجابي لأخذ العلاقة الأميركية – السعودية الى خارج التوتر العابر نحو أسس راسخة لا سيّما في بناء مركّبات النظام العالمي الجديد.

الرئيس التنفيذي لبنك “جيه بي مورغان تشيس” قال إن “ستة أشهر تفصلنا عن الركود الاقتصادي” إنما الوضع الجيوسياسي يثير القلق أكثر من الركود المحتمل في أميركا، “بخاصة الحرب بين روسيا وأوكرانيا والعلاقات بين أميركا والصين”. وزاد حول العلاقة الأميركية – السعودية أنه لا يمكن أن تتوافق كل الدول الحليفة على كل شيء “فالخلاف وارد، لكن واشنطن تعمل على معالجة ذلك”. وأضاف أن “الولايات المتحدة والسعودية ستبقيان دولتين حليفتين لأن كلاً منهما لديه مصالح مشتركة مع الآخر، والعلاقة بينهما ليست تبعية وإنما علاقة دول صديقة وحليفة”.

القيادة السعودية بدورها تدرك أهمية تجنّب ما يمكن أن يبدو أنه خطوات استفزازية أو انفعالية نظراً لحساسية العلاقات الأميركية – السعودية بالذات لدى الكونغرس والإعلام. تدرك أن أمام الرياض دوراً مميّزاً في سياق التموضع الاستراتيجي لكامل المنطقة في النظام العالمي الآتي – وهذا أمر بالغ الأهمية للسعودية وللدول الخليجية والعربية كلها.

المتحدثون السعوديون الكبار في مؤتمر FII حرصوا ليس فقط على إبراز مركزية العلاقات مع الولايات المتحدة وتوسيع رقعة التعاون مع دول أخرى كالصين، وإنما شددوا على ضرورة وعزم السعودية على الاستثمار المكثف في الدول العربية المحتاجة لا سيّما أن نعمة الإزدهار تضع الدول الخليجية العربية في خانة فريدة في عالم اليوم المنكمش والقلق من التضخم والركود.

وكما قال وزير المالية محمد الجدعان إن السنوات الست المقبلة ستكون جيدة لدول الخليج وصعبة على منطقة الشرق الأوسط الأوسع، ولذلك “علينا أن نقدّم الدعم للمنطقة” فيما العالم “يتأقلم”. وأعلن صندوق الاستثمار السيادي السعودي PIF عن خطط استثماره 24 مليار دولار في 5 دول عربية لدعم اقتصادها وإنشاء شركات استثمارية فيها هي البحرين وعُمان والأردن والعراق والسودان، علماً أن مصر تلقت الدعم المماثل مؤخراً.

ما يحدث في منطقة الخليج والشرق الأوسط في هذه الفترة سيعتمد بعض الشيء على ماذا ستفعله الجمهورية الإسلامية الإيرانية بنفسها وبجيرتها وبالدول التي تتدخل فيها عبر شركائها مثل “حزب الله” في لبنان. بعض الشيء، وليس كليّاً. فالدول الخليجية العربية تسعى لأن تبني علاقات طبيعية مع الجار الإيراني، لكنها تحصّن نفسها في حال اندلاع تطورات تهددها. ضمن أهم وسائل الحصانة هو الاندفاع نحو بناء الدولة واعتماد الإصلاحات وإشراك الشباب في مشروع بناء المستقبل.

إيران منشغلة بنفسها داخلياً لكنها قد تتأثر بما يدور حولها من ابتعادٍ من التطرّف الديني. البعض يرى أن ذلك قد يؤثّر في مسيرة إيران ما بعد مرشد الجمهورية آية الله علي خامنئي، فينحسر نفوذ الملالي وبذلك ينحسر النفوذ الديني. الخطر في ذلك هو أنه يفسح المجال أمام “الحرس الثوري” لأن يحكم علناً وليس ضمنياً علماً أن “الحرس الثوري” متطرّف بمواقفه الإقليمية وفي السياسة الخارجية برمتها.

انحسار الطموح برفع العقوبات الأميركية نتيجة الموت السريري للاتفاقية النووية JCPOA، واندلاع الاحتجاجات التي كشفت عن وجه النظام، والتورط عسكرياً في أوكرانيا دعماً لروسيا، قد تؤدّي الى استمرار طهران في شراء الوقت حتى اشعار آخر.

الإشعار الآخر قد لا يأتي بقرار من طهران بل بقرار من روسيا. مصدر موثوق به أكد أن روسيا أبلغت إسرائيل أن أي تحرك لها نحو توفير الأسلحة الى أوكرانيا سيؤدّي بموسكو الى إجراءات انتقامية في سوريا. هذه الإجراءات لا تتوقف عند إسقاط طائرات إسرائيلية تحلّق في الأجواء السورية، وإنما ستشمل، بحسب المصدر، إصرار الكرملين على طهران بأن “تخلق المشاكل في المنطقة” على مختلف الأصعدة والجبهات.

وأوضح المصدر أن ما تفعله إسرائيل في سوريا لن يكون المحرّك ولا هو ما يثير غضب موسكو، بل يمكن التعايش معه. أما إذا قامت إسرائيل بتسليم الأسلحة الى أوكرانيا، فالأمر سيؤدّي الى دفع إيران لتوجيه ضربات عسكرية ضد إسرائيل مباشرة. تقويم موسكو هو أن إيران ستكون جاهزة لمثل هذه المغامرة للانتقام من فشل JCPOA وتُحمّل إسرائيل مسؤولية منع إدارة بايدن من إتمام الصفقة.

الرأي الآخر يقول إن إيران ستضبط نفسها بقدر المستطاع وتحاول عدم الانزلاق أكثر في حرب روسيا على أوكرانيا. وفي مثل هذا الحال، لعل النظام في طهران يتأنّى، أقلّه انتقالياً، ريثما تتضح ملامح النزاعات الجيوسياسية الكبرى.

النهار العربي