تأسست «الإدارة الذاتية لشمال شرقي سوريا» عام 2013 لإدارة المناطق التي سيطرت عليها «وحدات حماية الشعب»، والتي أصبحت في 2015 المكون الرئيسي لـ»قوات سوريا الديمقراطية» (قسد)، والتي تحكم اليوم نحو ثلث مساحة سورية، رغم أن العرب يشكلون غالبية سكانه، ويعد الجزء الأغنى بالثروات الزراعية والنفطية.

وتسيطر «قسد»، التي تحظى بدعم التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، على قسم كبير من محافظة الرقة، من ضمنها مدينة الطبقة الاستراتيجية، إضافة إلى شريط القرى على الضفة الجنوبية من نهر الفرات الممتد من قرية «شعيب الذكر» غربًا، إلى قرية «كسرة شيخ الجمعة» شرقًا، كما تسيطر «قسد» على كامل ريف دير الزور الشرقي، شمال نهر الفرات الغني بالنفط، إضافة إلى معظم محافظة الحسكة مترامية الأطراف في شمال شرقي سورية، والتي تضم أكبر حقول النفط، والتي تعد المصدر الرئيسي لتمويل هذه القوات و»الإدارة الذاتية» الكردية في شمال شرقي سورية، وتسيطر أيضاً على منطقة منبج غربي نهر الفرات ومنطقة تل رفعت ومحيطها في ريف حلب الشمالي.

رافق مشروع الإدارة الذاتية مجموعة من الإشكاليات تتعلق بالتقبل المجتمعي والاعتراف السياسي والعلاقة مع الأطراف السورية الأخرى أو مع الجهات الإقليمية والدولية المنخرطة في النزاع في سورية، ورغم الشراكة أو علاقة الحلف مع التحالف الدولي/الولايات المتحدة، إلا أن هذا التحالف لم يمنح الإدارة الذاتية اعترافًا سياسيًا ولا حصانة ضد العمليات العسكرية والأمنية من طرف من يعتبرونها خطرًا أمنياً مثل تركيا، كما لم ترق مشروعيتها إلى مستوى تجاوز دمشق وبقيت أسيرة لتمثيل النظام في المحافل الدولية و معرضة باستمرار لتهديداته بشن حر ٍب على مناطق سيطرتها.

تواجه «الإدارة الذاتية» مؤخرًا إشكالية متزايدة في مسألة الهوية وطبيعة العلاقة بين المكونات المختلفة في مناطق سيطرتها ودور هذه المكونات ووزن ممثليها في صنع القرار في الهياكل الإدارية، وهو ما يحذوها فيما يبدو إلى الإعلان عن وثائق ذات طابع دستوري تطلق عليها «عقد اجتماعي»، تتضمن المبادئ الأساسية والمواد التي تنظم العلاقة بين المكونات المختلفة ودورها وتحدد الوحدات و الهيكلية التنظيمية للإدارة الذاتية وللمجتمع. وقد واجهت عملية تطبيق/ فرض هذا «العقد الاجتماعي» والمشاريع المتفرعة عنه صعوبات كثيرة تجلت في حالات الرفض الذي وصل في كثير من الأحيان حد الاشتباك المسلح بين قسد والمكونات المختلفة خصوصًا منها المكون العربي/العشائر.

آخر محاولات تقديم «عقد اجتماعي» كانت في 13 كانون الأول/ديسمبر 2023، عندما أصدر المجلس العام في الإدارة الذاتية، نسخة العقد الاجتماعي المعدل باسم «العقد الاجتماعي للإدارة الذاتية الديمقراطية لإقليم شمال وشرق سوريا»، والذي تضمن تعديلات كثيرة مقارنة بالوثائق التي سبقته وانبثق عنها، وتزامن إصدار هذه الوثيقة مع الذكرى الثامنة لاعتماد قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254، والذي ينظر له على الصعيد الدولي على أنه مفتاح الحل السياسي في سوريا، كما تبع إصدار هذه الوثيقة/العقد الاجتماعي وبالتزامن مع الإعلان عنها، عقد «مجلس سوريا الديمقراطية (مسد)» أعمال مؤتمره الرابع، 21 كانون الأول/ ديسمبر2023، في مدينة الرقة شمالي سوريا، الذي اعتمد نظامًا داخليًا جديدًا لـ «مسد» ووثيقة سياسية جديدة، وأقر مسودة «خارطة طريق حل الأزمة السورية»، وانتخاب رئاسة مشتركة جديدة، من المعارض المقيم في الولايات المتحدة الأميركية «محمود المسلط»، والمسؤولة الكردية «ليلى قهرمان».

نصت وثائق المؤتمر على سعي «مسد» إلى التحول إلى «بديل وطني ديمقراطي سوري»، كما خلص المؤتمر إلى خطة عمل للمرحلة المقبلة، وخريطة طريق لحل الأزمة السورية، تضمنت 9 بنود رئيسية (تبدأ بإعلان وقف لإطلاق النار بإشراف ومراقبة دولية، وإطلاق سراح جميع المعتقلين والمختطفين والكشف عن مصير المفقودين، وإخراج جميع المقاتلين الأجانب من الأراضي السورية وإنهاء جميع الاحتلالات، ورفع الحصار عن جميع المناطق السورية من كل الجهات العسكرية، ورفع العقوبات الاقتصادية عن البلاد، والعمل على عقد مؤتمر وطني سوري ينبثق عنه مجلس تأسيسي يمثل كافة مكونات الشعب السوري، وتشكيل حكومة انتقالية بكامل الصلاحيات، وإيقاف العمل بالدستور الحالي وتشكيل لجنة لصياغة مشروع دستور ديمقراطي توافقي جديد)

ُتعّرف «الإدارة الذاتية» العقد الاجتماعي على أنه «مجموعة الأسس النظرية والعملية والقوانين والقواعد التنظيمية، التي توضع لتحدد العلاقة بين الحاكم والمحكوم وتبين حقوق وواجبات الأفراد والمسؤولين داخل المجتمع».
كان أول «عقد اجتماعي»/دستور، أصدرته الإدارة الذاتية في يناير/كانون الثاني 2014، وأعلن عنه في وقتها حزب الاتحاد الديمقراطي وأحزاب متحالفة معه، حيث أعلن عن تشكيل «إدارة مؤقتة مرحلية» في ثلاث مناطق شمال سوريا وشمالها الشرقي، هي عفرين وعين العرب والحسكة، وأطلق عليه وقتها وصف دستور، ولكنه واجه انتقادات شديدة لأنه أغفل عند صدوره عدة مبادئ حقوقية أساسية، فندها تقرير صادر عن «هيومن رايتش ووتش» بعنوان «تحت الحكم الكردي» في 19 يونيو/حزيران 2014.

في عام 2016 أصدرت الإدارة الذاتية «العقد الاجتماعي للفيدرالية الديمقراطية لروج آفا – شمال سوريا»، التي نتجت عن مراجعة وثيقة 2014، وكان من أبرز مضامينها التركيز على «الفدرالية» التي اشارت إليها بـ «الفيدرالية الديمقراطية»، واستبدال «وحدات حماية الشعب» بـ «قوات سوريا الديمقراطية(قسد)»، لاحق ًا فيما يبدو تم إهمال هذا المستند بعد الانتقادات الشديدة لبعض ما ورد فيه، ولأن إعلان الفيدرالية الذي تضمنه لم يلق القبول لا على المستوى المحلي أو الإقليمي والدولي ولا على المستوى الكردي حتى.

ثم في عام 2018 حصلت مراجعة أخرى لدستور 2014، وأصبح يشار إليه بـ «ميثاق الإدارة الذاتية»، إلى جانب وثائق أخرى من نفس النوع -مثل: «العقد الاجتماعي في الجزيرة» و «عقد الفدرالية (2017)»-، من المفترض أن تشكل بمجموعها العقد الناظم لعمل الإدارة الذاتية وعلاقة مكونات المنطقة ببعضها البعض.

وفي أواخر 2020 تم اتخاذ القرار بالعمل على عقد اجتماعي جديد، كجزء من مخرجات مؤتمر «أبناء الجزيرة والفرات»، ثم في حزيران 2021، أعلنت «الإدارة الذاتية» عن تشكيل لجنة لإعادة صياغة «ميثاق العقد الاجتماعي»، بعدها تم تحديد أعضاء هذه اللجنة بـ 157 عضو ًا النسبة الأكبر منهم من الكرد(45٪) يليهم العرب(37٪) ثم السريان(11٪) ثم باقي المكونات بنسب صغيرة، وبعد أسابيع تم تشكيل لجنة مصغرة من هذه اللجنة مكونة من 30 عضو ًا.

هذه اللجنة المصغرة وبعد عامين من العمل قامت بإصدار «العقد الاجتماعي للإدارة الذاتية الديمقراطية لإقليم شمال وشرق سوريا» الذي يمكن اعتباره تعديل ودمج لكافة الوثائق السابقة والمشابهة في وثيقة واحدة، وتم اعتماده من المجلس العام في «الإدارة الذاتية» لشمال وشرق سورية، -على غير المعتاد في مثل هذا النوع من المستندات التي يتم إقرارها عادة عبر استفتاء شعبي، خصوصاً وأن «المجلس العام» التابع للإدارة الذاتية جهة غير منتخبة-.
ورغم أن هذه الوثيقة المعلن عنها أطلق عليها وصف «العقد الاجتماعي» ولكنها أقرب في صياغتها ومحتواها إلى دستور وتقنين للحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

أبرز معالم العقد الاجتماعي بنسخته الجديدة :
احتوى «العقد الاجتماعي» بنسخته الجديدة على أربعة أبواب تضمنت 134 مادة، الباب الأول يتحدث عن المبادئ الأساسية، والباب الثاني يتحدث عن الحقوق والحريات الأساسية، والباب الثالث عن النظام المجتمعي، أما الباب الرابع فاحتوى أحكام ًا عامة.
وبحسب مسؤولين في «الإدارة الذاتية»، فإن المراجع والمصادر الدستورية التي اعتمدت عليها اللجنة، تضمنت نماذج الدول ذات النظام الفيدرالي، كالعراق، لقربه الجغرافي، وسويسرا، بينما لم ُيعتمد على الدستور السوري؛ كونه يحمل خطاباً مركزياً.

تحدث العقد في ديباجته باسم «أبناء وبنات وشعوب شمال شرقي سوريا»، وبد ًلا من «الجمهورية العربية السورية» فقد استخدم «جمهورية سوريا الديمقراطية»، ولم يتطرق إلى كردستان أو «روج آفا» أو «غرب كردستان» ولم يأت على ذكر «الفيدرالية»، وإنما أشار إلى المناطق الواقعة تحت سيطرة الإدارة الذاتية والمشمولة بهذا العقد بـ «إقليم شمال وشرق سوريا» وحدد جغرافيته بـ 7 مقاطعات (الجزيرة، دير الزور، الرقة، الفرات، الطبقة، منبج، عفرين والشهباء)، وهذا التقسيم للمقاطعات يبلور حدود إدارية جديدة داخل سوريا، حيث تمثل مقاطعة الجزيرة الأجزاء التي تسيطر عليها قسد من الحسكة، ومقاطعة الفرات تضم منطقة عين العرب في محافظة حلب، ومنطقة تل أبيض في محافظة الرقة، والطرف الغربي لناحية رأس العين في محافظة حلب، أما مقاطعة الشهباء فتمثل تل رفعت ومحيطها في ريف حلب. وسمى شكل الحكم أو الإدارة بـ «الإدارة الذاتية الديمقراطية لشمال وشرق سوريا». وركز العقد الاجتماعي بشكل واضح على المرأة والشباب.

وكما جرت العادة في خطابات وبيانات ووثائق الإدارة الذاتية فقد تمت الإشارة إلى مكونات الشعب السوري بـ «شعوب»، وليس مكونات، وخصص العقد فقرات خاصة في مواده للحديث عن السريان والآشوريين والأكراد دون غيرهم، وإقرار حقوقهم وعاداتهم وعدم المساس بتركيبتهم الديمغرافية. كما نص العقد على أن الإدارة الذاتية جزء مما أسماها «جمهورية سوريا الديمقراطية»، وليس واضح ًا إن كان هذا ينطبق على سوريا الحالية أم لا.

وفيما يخص اللغات، فقد أشار العقد الاجتماعي إلى اللغة العربية والكردية والسريانية، كلغات رسمية.
وختم الباب الأول بمادة تنص على التزام الإدارة الذاتية بتحرير ما وصفها بـ «الأراضي المحتلة» وإعادة أهلها إلى مناطقهم، في إشارة فيما يبدو إلى منطقة «عفرين» وغيرها من المناطق التي تعتبرها الإدارة الذاتية من مقاطعات الإقليم ولكنها خرجت عن سيطرة الإدارة الذاتية وأصبحت تحت سيطرة أطراف الأخرى.

وفيما يخص الأديان فقد ركز العقد على حرية الأديان والمعتقدات والمساواة بينها وتضمن مادة خاصة في الباب الثاني للحديث عن الطائفة «الإيزيدية» وحمايتها من حيث كونها ديانة قائمة بذاتها.
وفيما يخص الوحدات الإدارية فقد حدد العقد الاجتماعي الوحدات الإدارية بـ: قرية، حي، بلدة، مدينة، مقاطعة.

وبالنسبة لأشكال التنظيمات المجتمعية فقد ركز العقد على «الكومين»(أصغر خلية تنظيمية في المجتمع)، ونص على أن كل مواطن في شمال وشرق سوريا هو عضو في كومين، وحدد العقد مستويات إدارية أخرى أعلى من الكومين (مجالس
، أكاديميات ، تعاونيات ، الخ) ووفق ًا للعقد سيتم استحداث العديد من المؤسسات الجديدة مثل:
«محكمة حماية العقد الاجتماعي» وهي بمثابة محكمة دستورية عليا
تعديل تسمية «المجلس العام» إلى «مجلس شعوب شمال وشرق سوريا» بمثابة البرلمان
مكتب النقد والمدفوعات المركزي(بنك مركزي) مؤسسة الرقابة العامة تابعة لمجلس الشعوب ستتحول هيئة البلديات إلى «تجمع واتحاد للبلديات في شمال وشرق سورية».
«مجلس أعلى للجامعات»: يوجد ثلاث جامعات في مناطق سيطرة قسد، إحداها جامعة «روج آفا» في مدينة القامشلي التابعة لمحافظة الحسكة، وجامعة «الشرق» بمدينة الرقة وجامعة «كوباني» في بلدة عين العرب بريف حلب الشرقي.

مفوضية عليا للانتخابات: للإشراف على الانتخابات والتي من المفترض أن تكون قريبة حيث يتضمن العقد العديد من المجالس والوحدات الإدارية التي يجب تحديد إدارتها وممثليها عبر الانتخابات.
وتضمن العقد في نهايته بندا يتيح تعديله بشكل كامل، في حال تم الوصول إلى «دستور ديمقراطي توافقي» لكل السوريين.
ولم تخل الوثيقة من المصطلحات والمفاهيم التي عادة ما تستخدمها الإدارة الذاتية ويتبناها عبد الله أوجلان مثل «الأمة الديمقراطية»، «نظام ديمقراطي بيئي»، «مواجهة الحداثة الرأسمالية عبر الحداثة الديمقراطية»، «الكونفدرالية
الديمقراطية» وغيرها.

ويمكن القول أن العقد الاجتماعي الذي أعلن عنه في 13 ديسمبر 2023 نظريا يمثل ولادة الإقليم بشكل رسمي، بأفكار وتصورات مستمدة بشكل كبير من فكر وتنظيرات عبدالله أوجلان، ولكنه في نفس الوقت يحاول التأقلم مع التصور السياسي الجديد للإدارة الذاتية ومجلس سوريا الديمقراطية التي تسعى لتقديم نفسها كمشروع وطني بديل.

أهداف «الإدارة الذاتية» من طرح العقد الاجتماعي :
على المستوى النظري تنطلق «الإدارة الذاتية» في إصرارها على بلورة «عقد اجتماعي» في هذه المرحلة إلى ثلاث معطيات: الأول: يتعلق بوجود فراغ في المنظومة الأخلاقية والسيادية نتيجة الظروف التي تمر بها سوريا، والثاني: يتعلق وجود فراغ في الجانب القانوني و التنظيمي/المؤسساتي، والثالث: يتعلق بالحاجة لهيكلة البنية الإدارية بما يسمح باحتواء حالة الفوضى، واستيعاب التنوع القومي والثقافي والديني.

ويمكن إجمال أهداف الإدارة الذاتية/قسد من طرح العقد الاجتماعي بالنقاط التالية:
تحديد رؤية وموقف الإدارة الذاتية والمناطق الواقعة تحت سيطرتها، من العديد من القضايا الجدلية مثل المرأة والشباب وحرية الأديان والمعتقدات وعلاقة الدين بالدولة وغيرها، ونقل هذه الرؤى من تصور -مفروض بسلطة الأمر الواقع- في مقابل رؤى وتصورات أخرى تتنازع معه، إلى رؤية منصوص عليها بوثيقة مرجعية، الجميع ملزم بها.

إعادة إنتاج شرعية الإدارة الذاتية على الصعيد الداخلي كجهة لديها مرجعية مشتركة بين كافة المكونات أو الشعوب -كما تسميها الإدارة الذاتية-، تستند إليها في سن القوانين وتأطير تحركات المجتمع وتوجيهه.

على الصعيد الخارجي تأمل الإدارة الذاتية أن يمهد «العقد الاجتماعي التشاوري» بتعديله الأخير، -والذي تضمن العديد من الرسائل الإيجابية تجاه المجتمع الدولي ولم يتطرق إلى العديد من القضايا التي كانت محط اعتراض في النسخ السابقة-، للتعامل معها كجهة معتبرة ذات شرعية وسيادة ولها استقلاليتها النسبية، وليس كسلطة مفروضة بقوة السلاح.

توحيد ودمج الوثائق المرجعية – إن صح التعبير- التي تراكمت وتنوعت في طروحاتها خلال السنوات الماضية، في وثيقة مرجعية أساسية واحدة، مركزة ودقيقة في اختيار التعابير والمصطلحات الواردة فيها.

التقدم بشكل رسمي بمسار مواز/بديل، على طريق الحل سياسي، في مقابل ما تعتبرها الإدارة الذاتية عملية عزل أو تحييد عن مسار الحل السياسي الذي تتم رعايته دوليًا، وأيضًا في مواجهة تعنت النظام وفشل مفاوضات أو محادثات الإدارة الذاتية معه.

توحيد المناطق السبعة التي تعتبرها الإدارة الذاتية تابعة لها، والموزعة إداريًا على 4 محافظات سورية -حلب ودير الزور والحسكة والرقة- واتباعها للمركز في شرق الفرات، وهذا يفتح المجال أمام تطبيق قوانين وسياسات إدارية أو أمنية أو اقتصادية في كافة المناطق على نفس المستوى، مثل التجنيد الإجباري أو سياسات معينة في مجال التعليم و المنهاج، وغيرها.

فتح المجال أمام عملية انتخابية واسعة على نطاق كافة المناطق التي تسيطر عليها الإدارة الذاتية، وفق الهياكل وأشكال التنظيم المجتمعي التي أقرها العقد الاجتماعي/الدستور الجديد، وهو ما يمكن أن يعضد شرعية الإدارة الذاتية من ناحية، وُيشعر جمهور واسع من أبناء المنطقة بالمشاركة منناحية أخرى، وسيستند إلى المشاركة في هذه الانتخابات من عدمه كمؤشر على شرعية العقد الاجتماعي الذي تمت على أساسه.

فتح المجال لتوسيع دائرة حكم الإدارة الذاتية إلى مناطق جديدة تحت غطاء العقد الاجتماعي، ولعل الصياغة الجديدة للعقد الاجتماعي بعد تعديله وتشذيب العديد من المصطلحات والأفكار التي كانت في النسخ السابقة، يراد منها فتح المجال انضمام أطراف أخرى إلى هذا العقد تحت عباءة الإدارة الذاتية، مثل الدروز/السويداء.

أبرز إشكالات العقد الاجتماعي للإدارة الذاتية :
– من أبرز الاشكالات المتعلقة بالعقد الاجتماعي-إن صح إطلاق هذه التسمية عليه- ، الذي أعلنت عنه الإدارة الذاتية مؤخر ًا، أنه تم العمل عليه والإعلان عنه من طرف واحد، دون تنسيق وحوار مع باقي الأطراف، كما أن واضعي العقد، لم يتم انتخابهم أو تكليفهم من جهات ممثلة للشعب بطريقة شرعية ومنتخبة، ولم يتم الموافقة على تكليفهم بكتابة العقد عبر الانتخاب أو الاستفتاء، وهم يمثلون إلى حد كبير، جهة حزبية محددة -حزب الاتحاد الديمقراطي PYD-، التي صاغت هذا العقد بما لا يصطدم مع تصوراتها وأهدافها، ويشار أيضًا على الصعيد الخارجي إلى عدم تعليق الحليف الأهم لقسد -الولايات المتحدة- على هذه الخطوة، وكذلك الأمر بالنسبة للعديد من دول أوروبا مثل فرنسا التي تتمتع بعلاقات مميزة مع قسد/الإدارة الذاتية.

– الإشكال الآخر المهم هو الانطباع بأن هذا العقد خطوة عملية جديدة باتجاه «مشروع انفصال مبطن» كما عبر عنه موقف الأطراف السورية الأخرى -أو جزء مهم منهم على الأقل-،، فالعقد إذ يقر بكون «الإدارة الذاتية» جزء من سوريا فإنه لم يقر بهذه العلاقة على أساس سوريا الحالية أو أي سوريا مستقبلية، وإنما حدد سوريا معينة متخيلة يريدها هو أسماها «جمهورية سوريا الديمقراطية»، فهو يضع نفسه على مفترق أن يحكم سوريا كلها وفق هذا التصور أو أن يفترق عنها بطريقة ودرجة ما. ويعزز هذا الانطباع تضمين العقد مصطلحات ومفاهيم تبناها عبدالله أوجلان -مؤسس حزب العمال الكردستاني- مثل «الأمة الديمقراطية»، وكذلك «الكونفدرالية الديمقراطية» التي هي من العناصر الأساسية لإيديولوجيا حزب العمال الكردستاني PKK، علم ًا أ ّن النص المعدل الذي تم إقراره والإعلان عنه مؤخر ًا تراجع عن الكثير من المصطلحات والمفاهيم التي وردت في نسخ أو وثائق سابقة مشابهة، والتي أثارت انتقادات واسعة، مثل «الفيدرالية»، التي لاقى طرحها انتقادًا واسعًا في وقتها، و «الآلهة الأم» الذي ورد كمصدر للتشريع في ديباجة العقد الاجتماعي «لفيدرالية الشمال» الذي صدر في 2016، وعرف «الآلهة الأم» على أنه إسناد إلى (العصر الحجري الحديث/النيولويتي)، على أساس أن تضمين هذا المصدر للتشريع يضفي على العقد الاجتماعي جذور ًا تاريخية تقدر بــ 400 سنة قبل الميلاد! لكن وبمقابل مؤشرات النزعة للانفصال، يمكن القول أن العقد الاجتماعي بتعديلاته الجديدة، يؤسس للامركزية أكثر منه للانفصال أو ما يمكن ان يؤدي للإنفصال مثل «الفيدرالية»، لأن هذا العقد يعلن عن تشكيل إقليم له خصوصيته الإدارية والاجتماعية، وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار التحركات الموازية التي تزامنت مع الإعلان عن العقد الاجتماعي ومن أبرزها عقد المؤتمر الرابع لـ «مجلس سوريا الديمقراطية (مسد)»، الذي اعتمد نظامًا داخليًا جديدًا لـ «مسد» ووثيقة سياسية جديدة، وأقر مسودة «خارطة طريق حل الأزمة السورية»، فهناك تركيز واضح -على المستوى النظري على الأقل- على تلافي النزعة الانفصالية، إلى شيء آخر. الواقع أنه وبقدر ما تبدو عملية الإعلان عن العقد الاجتماعي وصياغته والمفاهيم الواردة فيه، وما رافقها من تحركات، كلها تعطي انطباع ًا بالحرص على تمييز الإدارة الذاتية عن مشاريع وتصورات ومفاهيم الأطراف الأخرى- وهو ما تتم ترجمته إلى النزوع نحو الانفصال بالاستناد إلى تاريخ طويل من مناداة الأطراف الأساسية في «الإدارة الذاتية» بالانفصال خلال العقود الماضية- فإن السعي الفعلي حالي ًا يركز على توسيع/تعميم نموذج «الإدارة الذاتية» على كل «سوريا» لتصبح «جمهورية سوريا الديمقراطية» من خلال تقديم نفسها كمشروع وطني بديل، بينما تحتفظ بخط الرجعة نحو الطرح الآخر أو ما يؤدي له في حال لم تنجح مساعي تعميم النموذج.

– الإشكال الأخر هو ذلك المتعلق بالمرجعية العامة، إذ يركز العقد الاجتماعي على حرية المعتقد ومساواة الأديان، والتعايش والاعتراف المتبادل بين أفراد المجتمع والتفاعل بينهم إلا أنه لا يشير إلى البعد الديني/الإسلامي ولا العروبي، ويتعامل مع الإسلام كمعتقد خاص بفئة أو شريحة من السوريين وليس كعنصر أساسي في الهوية السورية أو كإطار مرجعي للمجتمع السوري، وبدلا من ذلك فإن العقد الاجتماعي للإدارة الذاتية ينص على ترسيخ «المجتمع الأخلاقي السياسي» من خلال ما أسماها «مبادئ الحداثة الديموقراطية»، ويعيد تعريف حدود الأمة، عبر استخدام مفهوم «الأمة الديمقراطية». إن إصرار حزب الاتحاد الديمقراطي على تبني مفهوم «الأمة الديمقراطية»، رغم أنه لم تتم تجربته والعمل به في المنطقة، وعدم وجود طر ٍف سياسي إقليمي يؤمن به، ورغم تعارضه مع الحالة المجتمعية في الشرق والمستندة في الكثير من جوانب حياتها إلى الإرث والأدبيات الدينية، كل هذا يعزز من حالة الصدام بين هذا العقد المجتمعي والقائمين عليه، وبين جمهور واسع من السوريين خصوص ًا منهم المسلمين. والمفارقة الغريبة هنا أن العقد الاجتماعي إذ يسعى لإقامة نظام ديمقراطي اجتماعي وفق مبادئ الحداثة الديمقراطية، في مواجهة الحداثة الرأسمالية، فإن الحليف القوي لقسد/الإدارة الذاتية الذي يحميها عملي ًا، ويمدها بالدعم هو الولايات المتحدة الرأسمالية.

– وبقدر ما يركز العقد الاجتماعي على اختصاصه بمناطق محددة من شمال وشرق سوريا، إلا أنه يتجاوز ذلك إلى تقرير اسم سوريا ككل ونظام الحكم فيها. عبر استخدام «جمهورية سوريا الديمقراطية»، وهو ما قد يعني تجاوز مشروع «الحكم الذاتي» و «الفيدرالية»، إلى تعميم نموذج متخيل، من الإدارة والحكم والعلاقة بين المكونات، على كل سوريا، ضمن مفهوم «الكونفدرالية الديمقراطية».

– أيضًا هناك الإشكال المتعلق بسياق إقرار والإعلان عن العقد الاجتماعي إذ تأتي عملية الإعلان عن هذا العقد وسط أوضاع داخلية سورية معقدة ومضطربة إذ يعاني المسار السياسي من الجمود منذ فترة بينما تعيش المناطق الواقعة تحت سيطرة الإدارة الذاتية اشتباكات مع عشائر عربية وخلاف مع مجلس دير الزور العسكري، إلى جانب العمليات المستمرة لتنظيم داعش في المنطقة، بالإضافة إلى الوضع المعيشي الذي تراجع بشكل كبير مؤخرًا، ويزيد من هول المأساة المستوى الضعيف للخدمات. وعلى المستوى الأوسع، يأتي الإعلان عن العقد الاجتماعي في سياق حالة الجفاء بين نظام الأسد والإدارة الذاتية وفشل المفاوضات بين الطرفين، وفشل الإدارة الذاتية(مسد) في التوصل لتفاهم مع المعارضة، وشكواها من عدم إشراكها في مسار الحل السياسي المعتمد دولي ًا والمتمثل بمفاوضات اللجنة الدستورية. لذا ُينظر للعقد الاجتماعي الجديد على أنه خطوة «تصعيدية» من جانب الإدارة الذاتية، في مقابل عزلها ومحاولة للنأي عن الجمود الحاصل في المسار السياسي، وتأمل أن يمثل هذا العقد أساسًا للنقاش حول الحل في سوريا وبوابة إشراك الإدارة الذاتية في مسارات الحل السياسي في سوريا، ولذلك حرص كاتبو العقد الاجتماعي على التأكيد فيه على أن الإدارة الذاتية جزء من سوريا معينة يريدونها، وعلى إمكانية تعديله في حال التوصل إلى دستور توافقي، والذي يعني مشاركة الإدارة الذاتية في صياغته.

– أخيرًا هناك الإشكالية التي تتعلق بالغموض في صياغة بعض الفقرات بما لا يتلائم والطريقة التي تكتب بها وثيقة دستورية او عقد اجتماعي، مثل الفقرة التي تنص على التزام الإدارة الذاتية بتحرير «الأراضي المحتلة»، دون تحديد هذه الأراضي والغالب أنها الأراضي التي تعتبرها الإدارة الذاتية جزءًا من الإقليم ولا تقع تحت سيطرتها الفعلية، مثل «عفرين» التي تقع تحت سيطرة المعارضة/تركيا، ولكن باعتبار أن هذا العقد الاجتماعي يمثل طموحات كل المكونات في المنطقة فلماذا فالحديث عن «الأراضي المحتلة» هل يشمل المناطق ذات الغالبية العربية ومحتلة من الميليشيات الإيرانية مثل البوكمال التي تتبع ديرالزور-التي هي من مقاطعات الإدارة الذاتية حسب العقد الاجتماعي الجديد-؟ وماذا عن مطار القامشلي الذي تتموضع فيه روسيا؟ أو حي الشيخ مقصود الواقع تحت سيطرة النظام؟ ماذا عن العديد من القواعد والنقاط العسكرية الأمريكية التي تتواجد في المنطقة وتسيطر على مرافق حيوية مثل حقول النفط؟

أبرز تبعات إقرار وإنفاذ العقد الاجتماعي للإدارة الذاتية :
الإعلان عن عقد اجتماعي لمنطقة معينة بمعزل عن باقي أجزاء سوريا، يؤسس لابتعاد المنطقة عن المركز وفي حال استمر الوضع القائم لفترة طويلة، فسيتم ترسيخ وضع الإقليم ودستوره، ما يمنع إعادة دمجه مع المركز مستقب ًلا، وقد يفتح الباب لجهات أو مناطق أخرى للانفصال بعقد اجتماعي وتمثيل سياسي خاص بها، تحت غطاء الفيدرالية أو أي شكل آخر من أشكال الابتعاد عن المركز. اعتماد الادارة الذاتية على عقد اجتماعي يقوم على مفهوم «الأمة الديمقراطية» وغيرها من المفاهيم غير المطروقة أو المعمول بها في سوريا والمنطقة، والمحدودة التطبيق حتى على مستوى العالم، كل هذا سيصعب مستقب ًلا الوصول إلى حالة توافق بين السلطة القائمة في مناطق سيطرة الإدارة الذاتية وأي سلطة أو حكومة في المناطق الأخرى أو المركز. اقتصار الإدارة الذاتية على الأطراف والجهات والأحزاب التي أسستها وتعمل في فلكها لإنجاز هذا العقد سيتسبب بمزيد من الخلافات داخل الإدارة الذاتية، مثل العشائر العربية أو مجلس دير الزور العسكري، وقد يمنع عودة الحوار الكردي – الكردي والمتعطل أساسًا منذ أكثر سنتين تقريبًا. رغم التعديلات والفروقات الكبيرة عن النسخ والوثائق السابقة المشابهة، إلا أن هذا العقد الاجتماعي يعمق من الشرخ بين الإدارة الذاتية والأطراف السورية الأخرى، خصوصًا المعارضة السورية، والتي تشكو الإدارة الذاتية أساسًا من عدم تمكنها من الوصول إلى اتفاق معها. الإصرار على إنفاذ هذا العقد بالصيغة والمفاهيم التي كتب بها، سيزيد من حالة الصدام بين الإدارة الذاتية وجمهور واسع من السوريين خصوصًا المسلمين، والعرب. إقرار وإنفاذ عقد اجتماعي من قبل الإدارة الذاتية لشرعنة وجودها سيثير حفيظة الجانب التركي وقد يدفعه لاتخاذ إجراءات إضافية تصعيدية ضد الإدارة الذاتية/قسد باعتبار أنها مسيطر عليها من PKK وفرعه السوري PYD إن إقرار وإعلان «العقد الاجتماعي» يعني ضمنًا موافقة الداعم والحليف الأمريكي على هذه الخطوة، وهذا يعني أن دعم الولايات المتحدة للإدارة الذاتية والذي بدأ بشكل محدود جدًا قبل2014وتحول إلى شراكة عملياتية ضد داعش اعتبارًا من تشرين الأول/أكتوبر 2014، تطور اليوم إلى مشروع سياسي يتضمن الدعم في بناء الشرعية المحلية والدولية والبنية التحتية المؤسسية، وهذا سيكون له تبعاته على العلاقات الأمريكية مع تركيا ومع باقي دول المنطقة.

خاتمة
تواجه الإدارة الذاتية إشكالية قانونية كبيرة فيما يتعلق بشرعيتها، بسبب غياب أي اعتراف بها، واستنادها فقط إلى علاقاتها مع دول التحالف الدولي/الولايات المتحدة، لإضفاء الشرعية على وجودها.
في ظل عدم شمل الإدارة الذاتية في محادثات جنيف سابقًا ومفاوضات اللجنة الدستورية حالي ًا، وفشل الإدارة الذاتية في الوصول لتفاهم مع المعارضة السياسية من ناحية مع النظام من ناحية أخرى، فإن الإدارة الذاتية تعول على ما أطلقت عليه «العقد الاجتماعي» لصناعة شرعية تحولها من سلطة أمر واقع مفروضة بقوة السلاح إلى سلطة معترف بشرعيتها استناد ًا إلى وثيقة دستورية.
تعتري المستندات التي أعلنت عنها الإدارة الذاتية العديد من الإشكالات وتواجه عملية تطبيقها تحديات كبيرة لأسباب تتعلق بالمبادئ والمفاهيم والهياكل التي تنص عليها هذه الوثائق واختلافها أو غرابتها -في أحسن الأحوال- عن الأعراف والمفاهيم والأدبيات السائدة في المجتمع السوري، وبسبب العمل عليها ومحاولة فرضها/تطبيقها من قبل طرف واحد وهو الإدارة الذاتية وتحديد ًا من قبل جهة محددة في الإدارة الذاتية هي حزب PYD وحلفائه، وهو ما يمكن استنتاجه من مواصفات اللجان المكلفة بكتابة هذه الوثائق ونوعية المفاهيم والمصطلحات والتوجهات التي تتضمنها.
ويبدو من المواقف التي أعلنت عنها الأطراف السورية الأخرى واتهمت فيها «الإدارة الذاتية» باتخاذ خطوات نحو الانفصال، أنها تق ّيم مبادرات الإدارة الذاتية، من خلال طروحات وتوجهات المكون الأساسي فيه «حزب الاتحاد الديمقراطي(PYD)»، -الذي تأسس في عام 2003 كفرع سوري من حزب العمال الكردستاني، ولا يزال
مرتبط اً معه بشكل وثيق من خلال «اتحاد مجتمعات كردستان»-.
حاولت النسخة المعدلة من العقد الاجتماعي التي ُأعلن عنها مؤخرًا( كانون الأول/ ديسمبر 2023) تجاوز العديد من المصطلحات والقضايا الإشكالية التي وردت في النسخ السابقة وفي الوثائق المشابهة التي صدرت عن الإدارة الذاتية، فلم تتضمن إشارة إلى «روجآفا» وبدلا من ذلك استخدم «إقليم شمال وشرق سوريا»، على غرار «إقليم كردستان العراق»، ولم تتطرق إلى «الفيدرالية»، ولا إلى «مصادر التشريع» بنص صريح، وأكدت على أن الإدارة الذاتية جزء من سوريا، كما نص العقد الاجتماعي على إمكانية تعديله، ليتوافق مع الدستور الذي يتوافق عليه السوريون مستقبلاً،
بالرغم من كل هذا فإن العقد الاجتماعي في مفاهيمه ومبادئه والهياكل والأشكال التنظيمية للمجتمع والسلطة التي نص عليها، يبدو واضح ًا فيه الصبغة الخاصة بحزب العمال الكردستاني وفكر مؤسسه، عبدالله أوجلان -غير السوري-، مع أن الإدارة الذاتية تصر على أن هذا العقد الاجتماعي بيد السوريين من مختلف توجهاتهم وانتماءاتهم،
ورغم ما يقرره العقد الاجتماعي من كونه وثيقة خاصة بمناطق محددة من شمال وشرق سوريا، إلا أنه يتجاوز ذلك إلى تقرير اسم سوريا ككل ونظام الحكم فيها، وهو ما يتسق والعديد من التصريحات والتحركات التي تشير الى التوجه للدفع باتجاه تقديم مشروع الإدارة الذاتية كنموذج يتم تعميمه على مختلف مناطق سوريا، وقد تزامن الإعلان عن هذا العقد مع التوجهات الجديدة لمجلس سوريا الديمقراطية (مسد)، والذي يحاول تقديم نفسه كمشروع وطني بديل.
هذه التوجه بتقديم نموذج إداري وسياسي يمكن تعميمه على مختلف مناطق ومكونات سوريا، يصطدم بواقع مختلف تمامًا على الأرض، إذ يمكن تحديد ثلاثة التزامات أساسية من المفترض أن تضطلع بها أي سلطة في إطار «العقد الاجتماعي»، هي: الحماية (أو فرض الأمن)، والخدمات، والمشاركة السياسية، ولكن الواقع أ ّن سلطة الأمر الواقع في شمال وشرق سوريا، المتمثلة في الإدارة الذاتية/قسد لم تستطع -حتى الآن-، توفير الحد اللازم من الأمن ولا المستوى المطلوب من الخدمات ولا الحد المرضي من المشاركة السياسية، رغم أنها تتمتع
نسبي ًا بوفرة من الموارد، وبدعم التحالف الدولي/الولايات المتحدة،
فلا يمكن التغطية على هذا الواقع، بنصوص مفعمة بـ «الديمقراطية» والحريات وحقوق «المرأة» و «الشباب» و «حماية البيئة»، على أمل أن تتحول هذه النصوص إلى حل عملي للتحديات التي تواجهها المنطقة، ناهيك عن أن تشكل نموذجًا
وبدي ًلا وطني ًا يظلل السوريين على مستوى سوريا كلها.
لقد دفع الواقع المعقد والهزة الكبيرة التي تعرض لها المجتمع السوري، للبحث عن حلو ٍل على المستوى الجذري، ومن هنا كان التطرق المستمر لصياغة أو كتابة عق ٍد اجتماع ّي جديد، وقد نكون في سوريا بحاجة إلى «عقد اجتماعي» جديد فع ًلا، ولكن هذا لا يمكن المضي به كل من طرفه، دون الاستناد إلى «الهوية الوطنية
الجامعة»، ودون تهيئة الأجواء والظروف المناسبة.
كما أن معالجة الإشكالات العميقة بأدوات حساسة مثل «العقد الاجتماعي»، إذا لم تتم بالشكل الصحيح، فلن يتوقف أثرها على عدم تحقيق النتائج المرج ّوة، بل سيتعادها إلى إحداث ضرر إضافي في بنية ومستقبل البلد والمجتمع، وسيفضي إلى ترسيخ حالة الانقسام بين مكوناته ومناطقه.