هذا أكثر موضوع تتم إثارته بخصوص الحرب في أوكرانيا هذه الأيام، البعض يطرحه كسؤال والبعض للأسف -مستعجل أو غير مدرك لحجم اللعبة وعمقها- فتراه يحسم الأمر بأن روسيا تورطت فعلاً في الحرب الأوكرانية
– في الأسبوع الأول للحرب أصدر مركز إدراك ورقة عنوانها: قراءة أولية لتبعات الحرب الروسية على المشهد في سوريا، وتطرقت لدوافع الحرب من الأساس وطريقة تفاعل مختلف الأطراف مع هذا الحدث الضخم، بعض النقاط التي تم التطرق إليها لم تكن الصورة واضحة بخصوصها وبعضها كانت المعطيات المتوفرة غير كافية لبناء تصور واضح، ولكن فيما يخص الإجابة على سؤال “الورطة” فالجواب في قوتها أنه من المبكر كثيراً الحكم على وضع روسيا في أوكرانيا ولكن الأكيد أن روسيا تفاجأت بعدة أمور أبرزها: أولاً: تماسك ووحدة الموقف الأوروبي ضدها وخصوصاً ألمانيا التي لطالما وصفت بأنها حصان طروادة في أوروبا ، ثانياً: الموقف الصيني الرخو تجاه روسيا وهو ما فاجأ الكثيرين وليس الروس فقط ، ثالثاً: استعداد شريحة واسعة من الأوكرانيين للقتال ضد روسيا والتفافهم حول قيادتهم ورئيسهم “صنيعة نتفلكس”
– مواجهة الروس لهذه المفاجآت وغيرها من التحديات أو العقبات لا يعني بالضرورة أنهم تورطوا ، دولة مثل روسيا عندما تدخل حرباً بهذه الأهمية وبعد سنوات طويلة من الصراع والاستعداد لهذه الحرب وفي ظروف معقدة كهذه التي يمر بها العالم، بالتأكيد وضعت احتمالات كثيرة للحرب وبالتأكيد تحسب حساب الأسوأ
– اليوم والحرب الروسية الأوكرانية على وشك أن تنهي شهرها الثالث، سؤال “الورطة الروسية” ما زال مطروحاً وهناك معطيات مهمة يمكن أخذها بعين الاعتبار للإجابة على هذا السؤال
– الجواب المختصر المباشر: نعم ، تشير معظم المعطيات (الحالية) إلى ان روسيا ليست في وضع تحسد عليه وانها فعلاً تورطت في حرب معقدة، والأمر نفسه ينطبق على أوروبا والعديد من دول العالم الأخرى التي وجدت نفسها في خضم حرب واسعة. الطرف الوحيد المرتاح والسعيد بهذه الحرب هو الولايات المتحدة التي نجحت بوضع روسيا في مواجهة أوروبا بينما تفصل الولايات المتحدة عن هذه الحرب آلاف الكيلومترات وعشرات السنوات من التخطيط والعمل الدؤوب والتكنلوجيا المتطورة والسيطرة الاقتصادية والتحكم بموارد الطاقة.
– أول المعطيات التي يجب أخذها بعين الاعتبار بخصوص هذه الحرب أن الولايات المتحدة كانت حريصة كل الحرص على دفع وتشجيع روسيا على خوض هذه الحرب عبر استفزازها تارة أو عبر التعنت في وجه مطالبها تارة أخرى او عبر إرسال رسائل طمأنة للجانب الروسي تشجعه على دخول الحرب مثل تصريحات الدفاع الامريكية بأن الولايات المتحدة لن تتدخل للقتال في أوكرانيا في حال قررت روسيا الحرب، هذا ليس معطى جديداً بل هو معطى قائم من قبل الحرب بأشهر بل وسنوات، ولكن الجديد أن الولايات المتحدة مستمرة في استفزاز الروس ومستمرة في الدوس على كبريائهم وهي تعلم أن جزءا كبيرا من طريقة عمل بوتين تعتمد على صورته، وتعمل اللعبة الامريكية هنا على موافقة على الأمريكان باستمرار على التفاوض مع الروس وإشعارهم بجدية كبيرة ورغبة أمريكية بحل المسائل العالقة حتى إذا تفاعل الروس مع هذه الرغبة وقابلوها بجدية مماثلة عبر تقديم أوراق عمل والاستعداد للقاءات على أعلى المستويات جاء الرد الامريكي إما برفض ما يتقدم الروس جملة وتفصيلا والتقليل من شأنه أو بمقابلة الطلبات الروسية بطلبات تعجيزية بالنسبة للروس مثل مطالبة الروس بالاعتذار والتراجع وما الى ذلك، تبين مؤخراً أن الولايات المتحدة تعمد فقط إلى رفض الطلبات الروسية والتقليل من شأنها بل واستخدمتها كنقاط ضعف تواجه بها الروس، فمثلاً عندما كانت روسيا تركز في مطالبها على سحب الصواريخ الأمريكية او صواريخ الناتو المنتشرة في فنلندا قامت الولايات المتحدة ليس فقط برفض هذا المطلب بل وعمدت الى نصب صواريخ جديدة في فنلندا.
– من مظاهر الاستفزاز الكبيرة إصرار الولايات المتحدة على فتح المجال لدول مثل السويد وفنلندا للانضمام للناتو، مجرد الحديث عن انضمام هذه الدول يشكل تحدياً كبيراً لروسيا التي تزبد وترعد لمجرد تلويح الولايات المتحدة بهذا الأمر ، واليوم وصل الأمر الى بدء هذه الدول إجراءات رسمية للانضمام للناتو وهذا يشكل ضربة موجعة جداً لروسيا، (وسؤال: ماذا يعني انضمام فنلندا و السويد الى الناتو يحتاج الى مقالة خاصة نعمل عليها في مقبل الأيام أن شاء الله).
– من المعطيات المهمة المستجدة التي يجب أخذها بعين الاعتبار تقدم روسيا باتجاه #كييف ومحاصرتها ودخول بعض إحيائها ثم اضطرارها للتراجع وتغيير استراتيجيتها من السيطرة على الأرض إلى التركيز على النقاط الاستراتيجية ومن حرب الجيوش الى حرب مختلطة تشمل الجيش والعصابات ومن تقدم سريع يبسط سيطرته على كل حي وشارع الى تقدم بطيء يركز على تحييد الفاعل المناوئ وصناعة واقع موالي، تأتي أهمية هذا المعطى ليس من كون روسيا لم تستطع التقدم عسكرياً في كييف، على العكس فلو أن روسيا خسرت معركة كييف عسكرياً لكان امراً ومتفهماً، ولكن الذي حصل أن روسيا أجبرت على الانسحاب تحت وطأة تهديد أمني وسياسي واقتصادي وليس بسبب المواجهة العسكرية، عندما تلقت من جهات دولية عديدة (صديقة مثل تركيا والصين أو عدوة مثل الولايات المتحدة وفرنسا) رسائل واضحة وصريحة بأنّ ما بعد كييف لن يكون كما قبلها وأنّ تجاوز كييف سيعني دخول مرحلة اللاعودة، هذا معناه أنّ روسيا حتى وإن كانت مستعدة عسكرياً بقدر كبير لهذه المعركة فإنها على الصعيد السياسي والاقتصادي وربما حتى الأمني ليست جاهزة لفرض نصر عسكري وهذا أمر متكرر في حروب روسيا من عقود طويلة فلطالما تمتعت روسيا بالاستعداد والقدرة القتالية مقارنة بباقي دول أوروبا ولكنها لطالما كانت تخسر المواجهات لأسباب سياسية واقتصادية، وآخر هذه الحروب أو المواجهات التي لم تتمكن روسيا فيها من حسم الأمور لصالحها أو لصالح معسكرها لأسباب سياسية واقتصادية وأمنية هو سوريا.
– المعطى الثالث الذي يمكن أخذه بالاعتبار فيما يخص سؤال “الورطة الروسية” هو هجوم روسيا على دونباس و خاركيف وهي نقاط استراتيجية تحول الاهتمام الروسي إليها بشكل كبير بعد كييف، ولم تنجح روسيا – حتى الآن- في حسم المعركة فيها وهو ما يعطي انطباعاً يؤكد عدم استعداد روسيا بالقدر اللازم لحسم المعارك التي تخوضها في أوكرانيا.
– المعطى الرابع هو القيود الاقتصادية والسياسية والامنية وغيرها التي فرضها العالم على روسيا بدفع من الولايات المتحدة وأوروبا ، وكان يتوقع أن روسيا مستعدة لمقابلتها بإجراءات تؤثر بشكل كبير على هذه الدول ولكن الواقع حتى الآن أن ما تسببت به روسيا من أزمات للآخرين أقل بكثير مما تسبب به الآخرون لها، وقد يبدو وضع روسيا حتى الآن متماسكاً ولكن مراجعة بسيطة للأرقام تُظهر أن روسيا قد تكون مقبلة على ظروف صعبة جداً، ولعل أحد الأسباب الأساسية لضعف قدرة روسيا للرد على العقوبات المفروضة عليها هو الموقف الصيني الرخو – كما ذكر أعلاه-
– المعطى الخامس تلويح روسيا بورقة إيران بشكل مباشر أو غير مباشر والتهديد بفتح المجال لإيران للتوسع في الشرق الأوسط في حال استمر التضييق على المصالح الروسية وحلفاء روسيا في المنطقة، لجوء روسيا لمثل هذه الاستراتيجيات التي تصنف كاستراتيجيات سطحية يعطي انطباعاً بأن روسيا تعيش حالة من انسداد الأفق، ويضاف إلى هذا المعطى أو يماثله التهديد الروسي بالنووي والذي لم يتم التعامل معه كمعطى حقيقي في بداية الحرب ولكن التهديدات الأخيرة المتتالية من روسيا لبريطانيا وظهور جنرال كبير من قيادة الأركان الروسية قبل أيام وهو يصور محاكاة لإطلاق صاروخ مدمر روسي على بريطانيا متسبباً بإغراقها خلال ساعتين وتصريحه أن إغراق بريطانيا يحتاج من روسيا ساعتين بينما عملية انتشالها إلى اليابسة مرة أخرى ستستغرق حوالي مئة عام! وقد كررت روسيا هذا التهديد اليوم حيث صرح مصدر رسمي بأن روسيا مستعدة لاستهداف بريطانيا بصاروخ نووي اسمه “RS-28 Sarmat” يمكنه تدمير بريطانيا عن بكرة أبيها في 200 ثانية!!! هذه التهديدات وأمثالها يميل أكثر المحللين والاستراتيجيين لاعتبارها نوع من الهذيان أو التخبط في عمل الروس، ناتج عن شعورهم بالورطة والخذلان وفقدان وسائل النجاة.
– هناك معطيات أخرى تعضد فكرة الورطة الروسية، تتضمن تقارير وتصريحات وحتى تسريبات لجهات استخباراتية وسياسية وازنة تؤكد فيها على ضعف موقف روسيا وعدم نجاحها في تحقيق أهدافها من الحرب وانعكاس الحرب عليها، فالناتو اليوم على وشك أن يصبح أكبر مما كان عليه قبل الحرب ودول مثل رومانيا ويوغسلافيا بولندا أقرب للغرب مما كانت عليه قبل الحرب وصورة روسيا وبوتين تحديداً لم تكن يوماً بالسوء الذي هي عليه اليوم ، ومنصات أوروبا الرسمية وغير الرسمية لا تنفك تتحدث عن تراجع دور روسيا في الشرق الأوسط وأقرب حليف للنظام في الشرق الأوسط – نظام بشار- لا ينفك يهرول باتجاه إيران والإمارات وغيرها ، كل هذه مؤشرات يمكن اعتبارها دليل على ورطة روسية حقيقية وإن كان هناك تفسيرات أخرى لكل منها.
– بالمقابل لا يجب أن نهمل أبداً فكرة مهمة تتعلق بمسألة الانكشاف العسكري لروسيا من خلال الحرب، إذ يمكن الجزم بأن أحد الأسباب الرئيسية لرغبة الولايات المتحدة بجر روسيا إلى هذه الحرب – وهو ما أكدته روسيا نفسها التي صرح رئيسها في أول يوم للحرب بأنه روسيا وجدت نفسها مجبرة على دخول هذه الحرب- أحد الأسباب الرئيسية هو وضع القوة العسكرية الروسية في حالة انكشاف عبر خوضها حرباً مباشرة ميدانية وبجنود روس نظاميين، وهو ما لم يكن عليه الحال في سوريا حيث توصف الحرب التي خاضتها روسيا في سوريا بالاستكشافية (كما وصفها مركز راند) كون روسيا خاضتها وفق شروطها وبشكل غير مباشر و استغلتها لاختبار أسلحتها وتطويرها وفي غالب الأوقات كانت تتحكم بظروف المعركة كما تملك خيار المشاركة من عدمه وتتحكم بطبيعة وشكل المشاركة. أما في أوكرانيا فالوضع مختلف، هذا الأمر تدركه روسيا جيداً وهو ما يفسر حرصها من أول يوم على عدم الزج بقوات خاصة أو أسلحة سرية أو اتباع استراتيجيات وتكتيكات غير معروفة، وعدم الاعتماد على تكنولوجيا خاصة في هذه المعركة، بدلاً من ذلك زجت روسيا بعدد كبير جداً من الجنود الروس على الأرض (حوالي 200 ألف بحسب العديد من التقارير) وهو رقم كبير جداً بالعرف العسكري الحديث، ولوحظ تحرك هؤلاء الجنود احياناً بعربات ومدرعات عمرها 30 أو 50 عام، رغم امتلاك روسيا لأسلحة وعربات وعتاد متطور وحديث نسبياً كما أن ميزانية الدفاع الروسية ليست محدودة لدرجة عدم تزويد الجنود في المعركة بأسلحة حديثة بالحد المعقول، ولكنه حرص روسيا على عدم كشف نفسها عسكرياً وتكنولوجياً أمام العالم في الوقت الذي يكرر الأمريكان مقولة مفادها أن روسيا لم تتمكن حتى اليوم من تسيير غواصة من سواحل الغرب إلى منطقة أخرى من العالم دون أن تتعطل خلال الرحلة.
– الخلاصة بعد هذا التفصيل الطويل: المعطيات المستجدة تؤشر أكثر من ذي قبل إلى احتمالية تورط روسيا فعلاً في الحرب الأوكرانية ولكن لا يوجد حتى اليوم ما يجعلنا نؤكد هذه النظرية بشكل جازم، ولا يوجد ما يؤشر بشكل جازم إلى أن روسيا لعبت أوراقها الحقيقية فعلاً وأنها تستخدم قوتها الحقيقية، ولكن الأكيد أن روسيا تواجه تحديات كبيرة وتخوض حرباً معقدة والولايات المتحدة في وضع أفضل بكثير من وضع روسيا وأوروبا ومعظم دول العالم، ففي الوقت الذي تخوض فيه أوكرانيا وروسيا الحرب بشكل مباشر ويسقط الضحايا من كلا الطرفين وتزدحم أوروبا بموجات اللاجئين، فإنّ الولايات المتحدة تخوض هذه المعركة على بعد آلاف الكيلومترات ومن خلف الشاشات وتتخذ القرارات عبر ضغط أزرار الكيبورد وتستعد علانية لشغل أي فراغ اقتصادي أو عسكري ينتج عن تراجع الدور الروسي أو عن هذه الحرب بشكل عام.
موقع إدراك
Be the first to write a comment.