مقتل صالح العاروري ورفاقه بضربة إسرائيلية في الضاحية الجنوبية اختبار دقيق لإيران و”حزبها” في لبنان. لن يزيد جبهة الجنوب اشتعالاً لكنه يطيل المواجهة ويرسّخ موقع إيران في الصراع. إسرائيل تحتاج (داخلياً) الى تفجير حرب مفتوحة في جنوب لبنان، وإيران لم تفعل شيئاً لعدم استدراجها إليها.

لم يجرؤ أيٌّ من المنجّمين والفلكيين اللبنانيين على المجازفة بأي توقعات شبه واقعية لما ينتظر المنطقة، وبالأخص غزّة ولبنان، في السنة الجديدة. ظلّوا في معظمهم أقرب الى خطاب “انتصار المقاومة” الذي يسوّقه “محور الممانعة”، ونأوا بأنفسهم عن المآسي الإنسانية في غزّة لئلا يفسدوا سهرات رأس السنة التي لم يصغِ روادها الى تنبؤاتهم. ولمرّة أولى نادرة يبدو الواقع العربي مكشوفاً ومتفوّقاً على أي تنجيم، فحتى مفاجأة/ صدمة صبيحة السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي لم تغيّر فيه سوى القليل، بينما غيّرت الكثير في بلدان أخرى غير عربية.

أعاد “طوفان الأقصى” القضية الفلسطينية الى دائرة الاهتمام العالمي (والعربي؟)، ولا تزال الأسئلة مطروحة: لماذا وكيف أهملت هذه القضية أصلاً، ولماذا احتاجت الى هذا “الطوفان” كي تعود الى الواجهة، وهل أن الانشغال الحالي الدولي (والعربي) بها مجرّد ردّ فعل على الجنون الوحشي الإسرائيلي ضد المدنيين في غزّة أم أنه استفاقة وعي بضرورة حلّ هذه القضية، ومَن سيتولّى هذا الحلّ أليسوا هم أنفسهم الذين رموها تحت رحمة النظام العنصري الإسرائيلي وبذلوا كل شيء لتصفيتها والتخفّف من أعبائها، وإذا كانت الولايات المتحدة وجدت أعذاراً واهية للإعراض عنها فهل كان العرب والآخرون معذورين؟ ثمة أخطاء سياسية فادحة ارتُكبت وكانت نتيجتها هذه المذبحة البشرية الرهيبة، ولا شيء يضمن تصحيح هذه الأخطاء طالما أنه لم يُعترف بها.

حتى الآن، وعلى رغم الحصيلة الدموية الجسيمة والدمار العمراني الكبير، خاضت إسرائيل (ومعها أميركا) حرباً لم تستفد منها ولم تحقق أهدافها، ولم يُسمع فيها سوى أصوات قليلة خافتة وغير مؤثّرة تلمح الى وجوب العودة الى “مشاريع السلام”، ولأنها لم تعد تستطيع الاطمئنان الى أمنها مستقبلاً فإن أصوات المتطرّفين وحدهم تجد أصداءً وقبولاً حين تدعو الى التخلّص نهائياً من وجود الشعب الفلسطيني. وما دامت إسرائيل تضع هذا الهدف كشرط لأمنها، فإن أي إدارة أميركية لا تستطيع تجاهله، وبالتالي فإن خطر التهجير قائم، مع تكدّس ثلثي نازحي غزّة بالقرب من الحدود المصرية نازحون، ومع ازدياد عدوانية الاحتلال في الضفة الغربية. فما مصير الاهتمام الدولي (والعربي) العائد الى القضية الفلسطينية إذا عجزت واشنطن أو تعاجزت عن طرح أي مبادرة لترويض التطرّف الإسرائيلي؟ وهل تكون إيران وحدها التي تملك الجواب؟

برهنت إيران أنها استطاعت أن تحقق أكبر فائدة ومكاسب من استغلال القضية الفلسطينية، ففيما انشغل الجميع بالبحث عن أي وسيلة لإخراج إسرائيل “منتصرة” من الحرب على غزّة، أو لـ “وقف الحرب”، تموضعت إيران عبر وكلائها بشكل يمكّنها من إدامة هذه الحرب. وإذ أدارت المواجهة بين “حزبها” وإسرائيل في جنوب لبنان وهجمات الميليشيات على قواعد أميركية في العراق وسوريا، فإن انخراطها في الصراع لم يُذكر إلا تلميحاً ولدعوتها الى لعب دور إيجابي، لكنه بات يُذكر تصريحاً بعدما حرّكت زمرة الحوثيين لشلّ الملاحة والتجارة عبر الأحمر، ومع ذلك فإن الولايات المتحدة لا تريد مواجهة معها. لدى تغيير تكتيكات إسرائيل في الحرب على غزة ستتغيّر تكتيكات إيران لتبقى حاضرة في الصراع، ومع أن إيران لا تريد حرباً على لبنان إلا أنها فعلت كل شيء لاستدراج إسرائيل اليها.

النهار العربي