١٣ عامًا من القتل والتهجير والدمار بحق الشعب السوري، خفت حدة المعارك في الجبهات، لكن معاناة السوريين ما تزال مستمرة في الداخل والخارج، بل ما تزال تتفاقم أكثر وأكثر في غياب أي حل سياسي يلوح في الأفق حتى الآن.
١. بداية، ما تقييمكم لمسار الثورة السورية سياسيًا وعسكريًا وإنسانيًا بعد ١٣ عامًا عليها؟
الثورة ليست غاية بحد ذاتها ولكنها منهج عمل لتحقيق قضية هي الأساس. وهذه القضية التي خاطر من أجلها السوريون او اغلبيتهم وضحوا بدماء ابنائهم هي ببساطة التحرر من نظام طغيان همجي قل مثيله سخر المجتمع والدولة والموارد الطبيعية والبشرية جيمعا لخدمة طغمة لا قضية لها ولا غاية سوى البقاء في الحكم ومص دماء العباد والتنكيل بهم وتحقيرهم لابتزازهم واكراههم على الخضوع والطاعة والولاء. والثورة لا تتفجر كاسلوب أقصى في الصراع الا عندما تعجز الوسائل الأخرى عن رفع الظلم والاضطهاد فيضطر شعب بأكمله الى رمي نفسه في مخاطرة كلية من دون حساب للتضحيات او المآلات أملا بأن يمكنه خروجه الجماعي واستعداده للموت من كسر الحصار المفروض عليه واستدراك التأخر التاريخي والانخراط من جديد في حركة التاريخ العالمي.
وقد حال تضافر عوامل داخلية وخارجية عديدة دون تحقيق هذا الهدف المنشود لثورة السوريين، وهذا ما ينطبق على ثورات الربيع العربي جميعها تقريبا ولو بدرجات مختلفة. بل ان حجم التدخلات الأجنبية الأقليمية والدولية بلغ درجة جعلت النتائج معكوسة بحيث زاد ارتهان الشعب للقوى الخارجية ولسلطات الأمر الواقع الميليشاوية وتفككت الدولة وتحولت مؤسساتها الى شرك للايقاع بالمجتمع وتسخيره في خدمة الطغم الحاكمة التي تحولت بشكل أوضح الى مافيات محلية تعمل بالتنسيق مع المافيات الدولية لنهب ما تبقى من موارد الشعب والبلاد.
لكن ما لم يتحقق بالشكل الايجابي المنتظر، اي بولادة نظام حكم جديد يعبر عن ارادة الناس ويرد على تطلعاتهم ويكرس حرياتهم الفردية والجماعية في اطار القانون، تحقق بشكل كارثي أدى الى خسارة الاطراف جميعا رهاناتها. وهذا ما نزال نعيش آثاره إلى اليوم. وادى تفكك النظام الى انتشار الفوضى وحكم الميليشيات وأمراء الحرب الصغار هنا وهناك بمثل ما ساهم في تحرر العديد من الأفراد والجماعات من سلطة النظام، سواء ما خرج منها خارج البلاد او ما بقي فيها تحت حكم سلطات الأمر الواقع الجديدة. وأطلق انكشاف حقيقة النظآم الوعي لدى النخب الشابة من سطوة الايديولوجية القديمة وفتح لهم الباب امام الاخذ من مناهل الفكر العصري والمعاصر والتحرر من الأوهام التي غذتها عقود طويلة من حكم الديكتاتورية الفاشية والاستبداد واكاذيبه. لذلك بالرغم من الأوضاع المزرية المادية والمعنوية التي يعيشها السوريون ومستنقع الفوضى السياسية والعسكرية الذي يخوضون فيه يكاد يحصل إجماع متنام عند السوريين والرأي العام الدولي على حتمية انهاء النظام وعلى أنه لم يعد هناك خيار آخر سوى التحرر مما بقي من آثاره والخروج منه نحو نظام جديد مختلف تماما.
من هنا، ما يشكل التحدي الأكبر لنا كسوريين خارجين من مذبحة النظام الهالك وما ينبغي ان نضع كل جهدنا في السنوات القادمة لانجازه هو الوصل بين هذه العناصر الفكرية والسياسية والاجتماعية والعسكرية التي ولدت من تفكك النظام القديم وموته السياسي، والعمل على اعادة تركيبها في نظام اجتماعي جديد تستمد السلطة فيه شرعيتها من الشعب وتكون غايتها خدمة المجتمع والارتقاء بشروط حياة الفرد المادية والثقافية وتحقيق المشاركة المتساوية لجميع الأفراد في القرارات العامة وضمان السلام والأمن والاستقرار في ظل سلطة القانون.
طالما لم ننجح في العمل على إظهار هذه العناصر وصقلها والجمع بينها على جميع المستويات الفكرية والسياسية والعسكرية لن نفشل فقط في تحقيق هذه النقلة الكبيرة والاساسية لوضع اسس النظام الجديد الذي ضحى السوريون في سبيل الوصول اليه، ولكن، اكثر من ذلك، سوف نحكم على انفسنا بالعيش طويلا في مستنقع الفوضى الذي تستفيد منه مافيات النظام في المنطقة التي لا تزال تسيطر عليها كما تستفيد منه سلطات الأمر الواقع وامراء الحرب والعواصم التي تقف ورائها وتقدم الدعم والحماية لها. وفي هذا المنعطف التاريخي الصعب تتجلى اهلية العناصر الواعية، المثقفة والسياسية والاجتماعية، وتبرز قدرتها على تحمل مسؤولياتها في استكمال انجاز مهام الثورة التي لا تزال تنتظر منذ 13 عاما.
٢. كيف يبدو الموقف الدولي والإقليمي اليوم من الثورة السورية؟
لا أحد يهتم كثيرا بمن لا يهتم بنفسه. فالعالم مليء بالمشاكل والكوارث والحروب والتحديات. والاهتمام ينتقل بسرعة من مشكلة الى اخرى. بمعنى اخر، ليس الموقف الدولي أمرا بديهيا يولد من تلقاء نفسه لكن علينا نحن ان نصنعه بجهدنا وتنسيق إراداتنا ونشاطاتنا والدفاع عن قضيتنا. فلن يتحرك احد لنجدة احد من تلقاء نفسه ان لم يتحرك اصحاب القضية ويكتشفوا الطريق للوصول الى تحقيق اهدافهم وارشاد الآخرين الذين يتعاطفون مع قضيتهم الى طريقة الدعم التي يمكن ان يقدمونها لهم. وحتى نرفع من مستوى اهتمام العالم بقضيتنا والعمل على الموقف الدولي والاقليمي ليكون داعما لنا علينا ان نظهر استعدادنا، نحن اولا، لتحمل مسؤولياتنا. وتحمل هذه المسؤوليات لا يعني الاستعداد للتضحية ببعض مصالحنا الشخصية لحساب المصلحة العامة فحسب وانما التغلب على انقساماتنا ونزاعاتنا الصغيرة من اجل تشكيل موقف سوري قوي، جامع وواضح، ورفع قضيتنا السورية التي هي قضية بناء دولة المواطنة الجديدة التي نسعى إليها بما تعنيه من كرامة وحرية وعدالة ومساواة وتعاون وتكافل تحت سقف القانون فوق النزاعات والخلافات الجزئية.
٣. ما مستقبل مسار التطبيع العربي مع النظام، وهل يمتلك السوريون أدوات حقيقية لمواجهة هذا المسار؟
لا يبدو ان المحاولات الأخيرة للتطبيع او بالاحرى لاستعادة بعض الدول العربية التواصل مع النظام قد حققت نجاحا يذكر بالرغم من اقتناعي بان هناك رغبة حقيقية لدى أغلب الأنظمة العربية ان لم يكن جميعها في اعادة العلاقات الدبلوماسية وربما الاستعداد للعب دور ما في المستقبل من اجل التوصل الى حل سياسي للأزمة السورية. وهي ازمة تكاد تكون مستحيلة الحل بعد ان قطع النظام كل علاقة مع الشعب واعلن العداء لاي حوار او تسوية سلمية وتمترس وراء ميليشيات اجنبية، ايرانية وعراقية ولبنانية وباكستانية وافغانية، واحتمى بالقواعد العسكرية الاجنبية للبقاء في السلطة مهما كانت الشروط ومهما كان الثمن. وهو يعتقد عن حق ان ما ارتكبه من جرائم بحق سورية وشعبها وادى الى تقويض الدولة وتشريد الشعب وتدمير الاقتصاد ووضع البلاد تحت وصايات الدول الاجنبية يستحيل تمريره او المرور عليه من دون التعرض الى المساءلة والمحاسبة مهما تمتع به السوريون من روح التسامح والرغبة في الخروج من الهوة السحيقة التي رمي فيها المجتمع والبلاد.
وحتى لو نجحت الحكومات العربية في تجاوز خلافاتها مع الأسد على أمل تحقيق بعض المصالح الخاصة مثل الحد من تجارة المخدرات او التخفيف من ضغط موجات المهجرين فإن نظامه تفكك ولم يعد قابلا للاصلاح وتحول حكمه، كما مر ذكره، الى غطاء لمشاريع المافيات المختلفة، ولن يستطيع بمؤسساته المهترئة ورجاله الفاسدين واصحاب السوابق الذين يحتلون المناصب الرئيسية فيه، ويفتقرون لأي مفهوم للسياسة او الادارة او العمل العام ولا تحركهم سوى مصالحهم الشخصية ونواياهم الاجرامية، ان يستعيد، مهما فعل، صفته السياسية ويتغلب على طابعه الجنائي. هناك طريق واحدة للخروج من المحنة الراهنة التي لم تعد سورية فحسب وانما صار لها آنعكاسات خطيرة على امن وسلامة الاقطار العربية الاخرى، هي العمل على تطبيق القرارات الدولية وتحقيق الانتقال السياسي، اي وضع حجر الاساس لنظام جديد يقطع مع سياسة التسلط والعنف الاعمى وثقافة الاستبداد وشرعنة النهب والتمييز الاجتماعي والطائفي ويرسي قواعد دولة القانون التي كان تدميرها الشرط الأول لاستمرار النظام القائم.
٤. ذكرتم في أكثر من مناسبة أن المعارضة السورية انتهت سياسيًا، وأن الأحزاب السياسية في سوريا أصبحت من الماضي، برأيكم ماذا على السوريين، وخاصة الشباب السوري، فعله اليوم لتجنب أخطاء السياسيين، وانتزاع زمام المبادرة؟
واضح ان معظم ألاحزاب السياسية التي عرفتها البلاد قبل الثورة قد فقدت الكثير من صدقيتها ونفوذها، المحدودين اصلا، بسبب ما اظهرته من عجز عن مواكبة الانتفاضة وقيادة الثورة كما كان ينتظر منها. لكن لم تكن هناك حاجة لقوى سياسية منظمة مؤهلة لحمل المسؤولية وقيادة العمل من أجل اقتلاع نظام السخرة والعبودية وارهاب الدولة، في أي حقبة سابقة، اكبر مما نحتاجه اليوم. وهذا هو التحدي الموجه إلى الأجيال الجديدة التي تحررت من قبضة النظام السياسي والفكري وانفتحت على العالم وحظيت بهامش واسع من الحريات والتواصل مع الشعوب والثقافات الأخرى لاثراء تجاربها الشخصية والجمعية. لا يعني ذلك ان العناصر التي شكلت ألاحزاب القديمة لم يعد لها دور. بالعكس سيكون لها الدور الابرز في بناء القوى السياسية الجديدة بما اختزنته من الخبرة والتجربة الطويلة مع الاستبداد إذا ما عرفت كيف تعيد النظر بمنهج عملها السابق وتجدد افكارها وتربط مع القوى الصاعدة.
وعلينا جميعا ان ندرك، قدماء ومحدثين، انه لا يمكن تجنب اخطاء الماضي بنسيانها او التغاضي عنها وانما فقط بالسعي الى فهمها والتعرف على اسبابها. ومن هنا تنبع قيمة التجربة وفائدتها. وهذا ما يؤمنه النقد التاريخي الذي من دونه لا يمكن تجاوزها ولا بناء الرؤية الاجتماعية والسياسية وبرنامج العمل لاستعادة نظام الدولة واعادة ثقة الناس بها، بعد ان تحولت الى اداة قهر واذلال، وتعاونهم معها لتحقيق مصالحهم الخاصة والعامة. ولا سبيل الى ذلك الا بتطوير منهج النقاش الموضوعي والحوار الهادف والابتعاد عن اساليب النقد التي سادت في الحقبة السوداء الطويلة الماضية والتي تعتمد على شخصنة المسائل جميعا، بما فيها الدولة وسلطتها المركزية، وتعميق روح المنافسة السلبية والتشهير المتبادل، والتركيز على ما يفرق، وتصيد الأخطاء وتضخيمها للالتفاف على المسائل الرئيسية وقطع الطريق على اي حوار جدي ومن ثم على تاسيس اي اجماع.
بعبارة اخرى لن نتقدم على طريق الخروج من المحنة الراهنة ما لم نجعل غاية الحوار والنقاش البحث في اسباب الخلاف والنزاع الحقيقية او الموضوعية لتجاوزها نحو فهم مشترك لا التغطية عليها او تفجيرها وتسعير العداء للآخر والانتقاص منه بهدف إقصائه او ازاحته عن الطريق. مثل هذا الحوار الذي يركز على السمات الشخصية ويتجنب الخوض في مسائل السياسية الاساسية بما فيها من مباديء وخطط وتصورات واستراتيجيات، ولا يرى من الآخرين وفي الواقع العملي سوى سلبياتهم لا يمكن ان يفتح اي افق جديد ولكنه يدفع المجتمعات الى الدوران في الحلقة المفرغة والى مزيد من التذرر والتمزق والشقاق ومن ثم الى تفاقم الازمة وتعفن الأوضاع وهدر الطاقات والإمكانات الكامنة.
٥. ماذا بقي للشعب السوري من أمل في تحقيق تغيير حقيقي؟
لا يوجد امل في الفراغ، ولا يولد الأمل من تلقاء نفسه. على السوريين المعنيين باخراج الشعب والبلاد من المحنة الكبرى التي وضعهم فيها نظام الشخصنة الشاملة للسلطة والدولة وكل ما له علاقة بالسياسة وقضاياها العامة، الاستراتيجية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية، أن يصنعوا هم انفسهم الامل. فالأمل ايضا يصنع وليس امراً معطى جاهزا ولا بديهة قائمة. وصناعته تبدأ من العمل على تحرير الوعي، وعي الأفراد اولا والوعي العام ثانيا، من الاوهام والمسبقات وارث التجارب الفاشلة التي تبعث اليأس ومن اشكال التفكير السلبي والتركيز في المقابل على القوى الايجابية والإمكانات الكامنة والمستقبل المفتوح وأسباب التضامن والتعاون القائمة والممكنة بين الناس وعند الجماعات المختلفة. وتتطلب ايضا العمل على تحرير الارادة من عوامل الشك والإحباط وانعدام الثقة والتسليم بالأمر الواقع واستمراء الاتكالية والاعتقاد بالجبرية او بالخوارق والاستسلام لعلاقات المحسوبية والإيمان بالحاكم الملهم، القائم او المنتظر، الذي ساهم في تحويل الدولة والسياسية الى ساحة لاستعراض المواهب الشخصية للحاكمين واعوانهم وبالاحرى لسقوطها في يد الاكثر انعداما للموهبة والعقل والاخلاق وبعدا عن الشعور بالواجب والمسؤولية الجماعية. ولا ينفصل هذا العمل الاساسي لتحرير الوعي والإرادة عن العمل على بناء الضمير الاخلاقي المرتبط بتمكين الافراد جميعا من تمثل معنى الواجب وتحمل مسؤولياتهم تجاه انفسهم ومصيرهم وتجاه المجتمع والدولة والانخراط في الحياة المدنية وعدم ترك المسائل العامة حكرا لاصحاب المصالح الخاصة الذين سرعان ما ينزعون، في حال تراخي المراقبة الجماعية، سواء كانوا حاكمين او مسؤولين في اي دائرة حكومية او اجتماعية، إلى وضع مصالحهم الشخصية قبل المصالح العمومية ويقدمون حكم الشهوة في سلوكهم على حكمة العقل.
٦. كيف يمكن للسوريين الخروج من حالة الركود والمراوحة والاستقصاء، والنهوض بالقضية السورية؟
ينجم الركود عن الاستسلام والتسليم بالأمر الواقع وانعدام الامل وضعف الايمان بالمستقبل وفقدان الثقة بالذات. وبالعكس يحتاج النهوض الى قلب الطاولة على ثقافة الاستسلام هذه واستعادة المبادرة من قبل العناصر النشطة والمؤمنة بدورها وبمستقبل افضل وعدم التسليم بالأمر الواقع كما لو كان قضاء وقدرا. كما يستدعي النظر الى أبعد من اللحظة الحاضرة وفي ما وراء الواقع السيء الراهن. بل والبحث في الواقع السيء ذاته عن عناصر تغييره والعمل على تفعيلها وتطويرها من اجل بث الحياة في الجسد الساكن واطلاق ديناميكية جديدة تحرك الأوضاع وتعيد النظر بالبديهيات وتعمل على خلق روح حية وارادة متجددة ومن ثم واقع جديد.
هذا هو الدور الذي يقع على عاتق العناصر الفاعلة التي تقوم، مهما كانت قليلة، بتحريك المستنقعات الآسنة وتجديد دورة التاريخ وذلك بمقدار ما تنجح في مقاومة اغراء اليأس وتتمسك بجذوة الايمان والثقة بالنفس وقوة
الارادة. وهكذا تكتشف في الواقع القاتم، مهما اعتراه من فساد وما خيم في هذه الحقبة او تلك من ظلام، حتمية التغيير والتجدد وليس عطالة تاريخية تنفي الحرية وتعفي الانسان من المسؤولية. وهذا ما يفسر استمرار الحياة ويبرر وجودها ويعطي للفاعلية الانسانية الروحية والفكرية قيمة ومعنى.
نون بوست
Be the first to write a comment.