خلافاً لانطباع قد يشير إليه جزء من تقارير وسائل إعلام إسرائيلية، لا يبدو هجوم سلاح الجو على إيران هو نهاية الأمر. فالمعضلة تنتقل الآن إلى يد طهران: هل علينا الرد، بأي قوة ومتى؟ التصريحات الأولية التي تسمع من هناك تدل على نية إيران العمل ضد إسرائيل. على الإيرانيين أن يقرروا إذا كانوا سيقومون بذلك بقوة محدودة من خلال رغبة في إنهاء المواجهة، أم العمل حتى قبل الانتخابات الأمريكية بعد ثمانية أيام.
إدراكاً بأن إيران قد ترد، بقي المستوى الأمني في إسرائيل، الدفاع والهجوم، مستعداً. والقوات الأمريكية في المنطقة وبطارية صواريخ الاعتراض “ثاد” التي نشرت في البلاد ووحدات ووسائل قتالية أخرى في المنطقة، ما زالت في مستوى عال من الاستعداد. الجنرال احتياط تمير هايمن، رئيس معهد بحوث الأمن القومي، بحث أمس مع الـ “بودكاست” (البث المسموع لهآرتس) بأن التصريحات التي أسمعها نظام طهران استهدفت إعطاء خامنئي “أقصى درجة من المرونة في القرار. وقال هايمان أيضاً، الذي كان رئيس شعبة الاستخبارات السابق في الجيش الإسرائيلي، إن الضباب يبقى احتمالات الزعيم مفتوحة.
وحسب قوله، فإن جزءاً كبيراً من اعتبارات بلورة الرد متعلق بصورة يبدو فيه النظام أسيراً للساحة الداخلية؛ بيد الجمهور الإيراني. المواطنون يقلقون من الصعوبات الاقتصادية وقمع حرية التعبير، لكنهم يعتبرون إيران دولة قوية تدافع عن نفسها بنجاح أمام أعدائها. إطلاق الصواريخ، الأول من نوعه الذي شهدته إيران منذ نهاية الحرب مع العراق في نهاية الثمانينيات، يقوض الشعور بالأمان في أوساط المواطنين، وربما يدفع خامنئي لقرار برد لا تبدو قوته معروفة الآن.
ما زال جهاز الأمن منشغلاً في محاولة تقدير الأضرار التي تكبدتها إيران بسبب الهجوم. الانطباع إيجابي حتى الآن: يبدو أن سلاح الجو نجح في ضرب منظومة صواريخ أرض – جو الاستراتيجية، وشل وسائل الكشف غربي إيران، والتشويش على منظومة إنتاج الصواريخ والمسيرات لأشهر كثيرة قادمة. ونشر عن تدمير 12 “خلاطات كوكبية”، وهي جزء مهم لإنتاج الصواريخ البالستية. مع ذلك، تطرح إمكانية أن تزود روسيا إيران بمنظومات مضادة للطائرات من نوع متقدم أكثر، اس 400، في محاولة لإصلاح الانطباع بأن منظومات الدفاع الروسية هزمت أمام مواجهة الطائرات الغربية التي استخدمتها إسرائيل.
مثلما في مراحل سابقة في الحرب، الأجسام الأكثر إهانة في الجيش الإسرائيلي على خلفية الاحتجاج ضد الانقلاب النظامي والمذبحة في 7 أكتوبر (سلاح الجو والاستخبارات العسكرية “أمان”) هي التي وقفت من وراء النجاح العملياتي المميز والأول في نوعه. الطيارون الذين تم وصفهم بمجموعة خطيرة من “الكابلانيين اليساريين” وقادتهم الذي اتهموا بالتسامح المبالغ فيه تجاههم، قدموا إسهاماً لا يمكن الاستخفاف به لأمن الدولة. ومثلما أفشل التزامهم المدني خطة الحكومة للقيام بانقلاب ضد الديمقراطية في السنة الماضية، ها هم يساعدون في الدفاع عن الدولة الآن. في ذروة المواجهة ضد الانقلاب، يجب التذكر بأن رئيس الحكومة نتنياهو قال إنه يفضل التنازل عن سربين من الطائرات القتالية على خلفية تهديدات الطيارين في الاحتياط بوقف التطوع على التراجع عن خططه.
زمن حرج لاتخاذ القرارات الحاسمة
أكتوبر، الذي لم ينته بعد، يتميز بأنه الشهر الأصعب إزاء خسائر إسرائيل منذ بداية السنة الحالية. أمس، سمح بنشر أن خمسة جنود احتياط قتلوا في مواجهة جنوبي لبنان بعد ظهر السبت، وأصيب 14 جندياً، خمسة منهم في حالة حرجة. القتلى والمصابون من رجال لواء ألون (228)، وهو لواء مشاة في قيادة المنطقة الشمالية ويرتكز على خريجي “الناحل”. إضافة إلى ذلك، أعلن الجيش الإسرائيلي أمس بأن جندياً من لواء “جفعاتي”، الذي أصيب في بداية الشهر في شمال القطاع، توفي متأثراً بجروحه. في اليومين الأخيرين، سجل عشرة قتلى من جنود الاحتياط في مواجهات مختلفة في لبنان. أمس، قتل مواطن إسرائيلي بعملية دهس قرب القواعد العسكرية في “غليلوت”، وأصيب عشرات المواطنين والجنود في هذه العملية.
تعرض الحكومة نجاحات العملياتية أخيرة في غزة وإيران ولبنان كدليل لتبرير استراتيجيتها والحاجة إلى الاستمرار في القتال في كل الجبهات. عملياً، لا يمكن تجاهل ثمن مواصلة القتال. الخطر الأكبر يكمن في لبنان، بالتحديد في الساحة التي تؤدي فيها نشاطات الجيش الإسرائيلي إلى نتائج جيدة. حزب الله الآن بات في منحى معين للتعافي بعد تعيين قادة جدد بدلاً من كثير من القادة الذين قتلوا في الهجمات الإسرائيلية. ربما يحدث هنا سفك مستمر للدماء، الذي سيغير نظرة الجمهور إزاء الحاجة إلى مواصلة القتال. في عدد غير قليل من الحالات السابقة، خصوصاً في حرب لبنان الأولى والتواجد في المنطقة الأمنية في لبنان في التسعينيات والانفصال عن قطاع غزة في 2005، أوجدت الخسائر الكثيرة ضغطاً على الحكومات (من بينها حكومات يمينية) وأدت إلى تغيير سياستها، بما في ذلك الموافقة على الانسحاب.
إيران ووكلاؤها يمكنهم إدارة حرب استنزاف ضد إسرائيل، ستشمل إزعاجاً مستمراً للجبهة الداخلية أيضاً، في شمال البلاد والمركز. نجح رئيس الحكومة نتنياهو، في تحقيق استقرار سياسي للائتلاف بضمه جدعون ساعر وثلاثة أعضاء كنيست في قائمته. ولكنه استقرار يقف في نهاية المطاف أمام امتحان إزاء إطالة الحرب وارتفاع عدد المصابين. يقف في الخلفية غضب الجمهور المتزايد حول مسألة عدم المساواة في توزيع عبء الخدمة العسكرية. بضغط من شركائه الحريديم في الائتلاف وأمام التهديد من قبل المحكمة العليا، يصر نتنياهو على المضي بقانون الإعفاء، الذي يمنح الشباب الحريديم إعفاء ساحقاً من الخدمة في الجيش. عدد من قتلوا في الحرب وعبء خدمة الاحتياط والتضحية، يقع على جزء مقلص جداً من السكان، ما سيبرز أزمة سياسية تصعّب عليه إدارة الحرب كما يشاء.
تنقسم الخلافات حول مواصلة الحرب حسب الخط الفاصل بين اليمين – اليسار – الوسط، لكن وصف ذلك أيضاً كنقاش بين المتفائلين والمتشائمين. نتنياهو ومؤيدوه يلاحظون وجود فرصة لتعميق التغييرات في الشرق الأوسط. فبعد الضربات التي تكبدها حزب الله وحماس، والهجوم الأخير على إيران، يعتقدون أنها فرصة لإضعاف المحور الشيعي الراديكالي في المنطقة إلى درجة المس بالمشروع النووي الإيراني، وحتى الدعوة (التي أسمعها رئيس الحكومة نفسه مؤخراً) إلى إسقاط النظام في إيران على يد الشعب. في المقابل، من يؤيدون إنهاء الحرب يخشون من أن تورط إسرائيل في عدد كبير من الجبهات، ويعتقدون أن معظم الإنجازات العملياتية التي كان يمكن تحقيقها تم استنفادها، وأن أخذ مخاطر أخرى قد يظهر كرهان مبالغ فيه، وسيكون له ثمن باهظ.
والدليل على هذا التوتر يكمن في احتفال الذكرى بالمذبحة، أمس. وزير الدفاع غالنت، المؤشر اليقظ في حكومة اليمين المتطرفة والوزير الوحيد الذي تشير الاستطلاعات برأي إيجابي للناخبين حول أدائه، قال في خطاب ألقاه في الاحتفال بأن “حماس وحزب الله لم يعودا يشكلان أداة ناجعة في يد إيران. هذه الإنجازات المهمة تخلق تغييراً في علاقات القوة… لا يمكن تحقيق أي هدف بعملية عسكرية. القوة ليست كل شيء. عندما نأتي إلى تنفيذ واجبنا الأخلاقي والقيمي لإعادة المخطوفين إلى بيوتهم، نحتاج إلى تقديم تنازلات مؤلمة”.
نتنياهو في المقابل، وعد في خطابه باستمرار “العمل بزخم كبير إلى حين استكمال النصر”. وعندما صعد لإلقاء خطابه، قاطعه بعض أبناء العائلات الثكلى بهتافات الاستهجان. هذا العداء الذي يظهر أيضاً في أوساط الجمهور الواسع، يرتبط أيضاً بمواصلة الحرب وتصميمه على إحباط تحقيق رسمي في الإخفاقات ورفضه الحازم للتوصل إلى صفقة تبادل. المفاوضات مع دول الوساطة استؤنفت أمس في قطر، وقناة تلفزيونية سعودية اقتبست قادة كباراً في حماس، اقترحوا إطلاق سراح جميع المخطوفين، مقابل إطلاق سراح عدد كبير من السجناء الفلسطينيين وانسحاب كامل من القطاع.
هذا وقت حرج لاتخاذ قرارات حاسمة، ليس في قضية المخطوفين فقط. يقول اليمين إنه خلال “ثمانية أيام” سيكون بالإمكان معرفة إذا كان الجيش الإسرائيلي سيغرق للمرة الثالثة في الوحل اللبناني أم سيقلص وجوده هناك، وستسعى إسرائيل إلى اتفاق سياسي ينهي الحرب ضد حزب الله. نتنياهو، كما يبدو، غير متسرع في الذهاب إلى أي مكان؛ سيفضل انتظار نتائج الانتخابات الأمريكية في 5 تشرين الثاني، قبل القيام بخطوة سياسية مهمة، وقبل ذلك قد يكون هناك هجوم آخر من إيران.
ترجمة القدس العربي
Be the first to write a comment.