“زنازين الموت: 105 أيام في سجون داعش”، عنوانُ كتاب جديد يروي فيه العراقي الموصلي (نسبة إلى مدينة الموصل) محمد العطار يوميات اعتقاله من 3 يوليو/تموز إلى 8 أكتوبر/تشرين الأول 2014 في سجون تنظيم “داعش”.
صدر الكتاب في نهايات العام الحالي (2023) عن “دار سطور” البغدادية – البيروتية، و”دار سنا” في الموصل، وفيها وقّع المؤلف نسخا من كتابه في حضور أكثر من 400 شخص من الموصليين، حسبما قال لـ”المجلة” أثناء تواصلها معه وتسجليها حديثه عن حال مدينته وأوضاعها الاجتماعية والعمرانية والثقافية الراهنة، بعد تحريرها من قبضة “داعش” الإرهابي.
ولد محمد العطار في الموصل سنة 1977. وحصل على شهادة دكتوراه في الفقه الإسلامي من كلية العلوم الإسلامية في جامعة تكريت العراقية. وأسس في مدينته “معهد أمهات المؤمنين الإقرائي” لتحفيظ الفتيات القرآن، وهو أداره بين سنتي 2012 و2014. ثم أعدَّ برامج إذاعية في التربية الإسلامية وقدّمها على أثير إذاعات موصلية خاصة. وأصدر مؤلّفات عدة، منها “سنّة الله في النصر والتمكين”، “سيكولوجية الحب في الإسلام”، “الشباب والإلحاد”، إضافة إلى روايته “الحب عبادة”. ووضع العطار مؤلَّفا لا يزال في المطبعة عنوانه “الإعصار الأسود”. وفيه يروي حال الموصل وأوضاعها إبان حَكَمَها بالعسف والإرهاب تنظيم “داعش” طوال 3 سنوات: 10 يونيو/حزيران 2014 – 26 يونيو/حزيران 2017. والكتاب هذا يصدر قريبا في 3 أجزاء.
والعطار عربي وإسلامي الثقافة والقراءات واللغة والأحكام والرؤية. لكن إسلامه ثقافي، أخلاقي وإيماني وفقهي، معتدل، ومتشدّد في مناهضته ممارسات الإسلام السياسي المتطرف والإرهابي. وهذا ما تبينه قراءة كتاب يومياته الموسوم بـ”زنازين الموت”. فأسلوبه الكتابي فيه يحاكي نمطا إسلاميا تقليديا قديما ومتجددا في سرد الوقائع والحوادث والأخبار والتراجم والأنساب وسِيَر الرجال. وللشريعة والفقه، الحديث والتفسير – وهي أعمدة الثقافة والتراث الإسلاميين – حضور في تعليله حوادث يومياته وسلوك الناس وأفعالهم وأحكامه عليها. وهذا ما يزيد عدد صفحات “زنازين الموت” إلى أكثر من 500 صفحة. في الأخيرة منها نجد صورا فوتوغرافية لأشخاص من الموصل قتلهم أو أعدمهم “داعش”، إلى جانب تعريف بكل منهم. ولبعض من أعضاء التنظيم الإرهابي – مثل “مسؤول ديوان الصحة”، “ديوان المساجد” (الديوان تعني الوزارة) و”قاضي الدماء” والمفتي وسواهم – نجد صورا وتعريفات مماثلة.
في روايته التفصيلية حول يومياته في سجون “داعش”، يعتمد الكاتب أحكاما أخلاقية دينية المصدر في مقاربته أفعال البشر، سلوكهم وأهواءهم وميولهم، معتبرا أن طبيعتهم الخيّرة وأخلاقهم الدينية الحميدة، أو الوازع الديني في أنفسهم، تتفوق بالضرورة على أي نازع آخر قد يتحكم بهم في وقائع حياتهم المتدافعة والمتناقضة. وقد يكون لأخلاقيات التصوف وثقافته نصيب من التدفق العاطفي الذي يتحكم بأسلوب الكاتب في سرده يوميات السجن. فهو غالبا ما ينقاد إلى البكاء والتضرُّع إلى الله والصلاة كي يتحمّل العذابات التي يتعرض لها وسواه في جلسات التحقيق.
لكن هذا لا يحول دون أن تؤدي قراءة الكتاب إلى رسم صورة عن مجتمع مدينة الموصل، وعن العلاقات بين أهله وجماعاته وفئاته، وعن التحولات التي عصفت به في حقب متلاحقة، منذ الحصار الأميركي المضروب على العراق بناء على قانون “النفط مقابل الغذاء” طوال 13 سنة (1990- 2003) قبل إقدام أميركا على احتلاله، ثم نشوب الحروب الأهلية ومقاتلها الطائفية أثناء ذاك الاحتلال، ووصولا إلى سيطرة التنظيم الإسلاموي الإرهابي على الموصل وحكمه إياها حكما ديكتاتوريّا إرهابيا طوال 3 سنوات، ما بين 10 يونيو/حزيران 2014 و26 يونيو/حزيران 2017.
الموصل “دجاجة بيضاء”
يرى العطار أن الاحتلال الأميركي للعراق “لم يكن الاحتلال الحقيقي” في الموصل. ذلك لأن وحدات الجيش الأميركي كانت “تتحرك وتقوم بدوريات” في المدينة، من دون أن تتعرّض بالأذية لأي من سكانها، سوى لمن “يؤذيها”. ثم إن “رواتب” الموظفين من أهل الموصل كانت تُصرف لهم، والأعمال مؤمّنة، والمجندون العراقيون في الجيش العراقي الجديد، يؤدّون مهامهم على نحو “عادي” في المدينة، ويتبضعون بأمان في أسواقها، ويكثر الناس من طلبهم التقاط صور لهم مع الجنود، عراقيين وأميركيين. على هذه الصورة كانت حال الموصل في السنوات الثلاث الأولى من الاحتلال الأميركي (2003 – 2006). أما المجابهات بين “المقاومات” العراقية والجيش الأميركي، فكانت النجف والفلوجة مسرحها الأساسي. بينما كانت الموصل “مسالمة جدا”، ولذلك سمّيت في العراق “الدجاجة البيضاء”.
لكن ما أن ظهر في المدينة بعض “الجهاديين التكفيريين” المناوئين للجيشين الأميركي والعراقي، حتى تحول سلوكهما، وخصوصا العراقي، إلى سلوك عدواني عنيف ضد أهلها الذين شعروا بالضيق والحصار، وبدأ سلوك القوات العسكرية والأمنية الحكومية في عهد رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي (2006 – 2014) يتخذ طابعا “طائفيا وليس وطنيا عراقيا”. أي أن التمييز الطائفي يتحكم بسلوكها العدواني ضد الأهالي. حتى أن بعضهم صار يسمي هذا السلوك “الإرهاب الحكومي”. وكان ذلك، إضافة إلى تفاقم المذابح الطائفية في العراق، واجتثاث السنّة وتهجيرهم من العاصمة بغداد، المقدمات التي أذنت، بعد العام 2006، بتنامي التيارات “الجهادية” في الموصل التي وقعت بين سندان “الجهاديين” ومطرقة القوات الحكومية وعسفها. ويروي العطار أن أهالي مدينته في تلك السنوات، فقدوا أي ثقة بالقوات الحكومية. فعندما كان يُقتل أو يُغتال جندي أو شرطي منها، صار الأهالي يتعاطفون مع القاتل ضد القتيل.
“داعش” والاحتلال الداخلي
قبل احتلال “داعش” الموصل سنة 2014، نشط فيها “الجهاديون” الذين أتاها بعضهم من خارجها، فاختلطوا بأهلها وخالطوهم وعملوا على تحريضهم ضد المظالم التي يتعرضون لها من القوات الحكومية ويتهمونها بالسلوك الطائفي. وكان التحريض يستهدف “تكفير الشيعة” من على منابر المساجد في المدينة. ومن لم يكن يستجيب لذلك من أئمتها وسواهم من رجال الدين وأهل علومه الموصليين، أمثال محمد العطار، صار يراقبهم الجهاديون ويضيّقون عليهم ويهددونهم. فدب الاضطراب وتفشى في مجتمع الموصل وأخذ يسمِّم نسيجه الأهلي والقرابي وعلاقات الناس جميعا في المدينة، وصار التحريض الطائفي هو الناظم الأساسي في العلاقات الاجتماعية والحياة اليومية.
غالبا ما كان الناشطون في التحريض وفي اغتيال عناصر من القوات الحكومية، أمنيين وعسكريين سابقين في العهد الصدامي الديكتاتوري، وفقدوا دخلهم وساءت أوضاعهم المعيشية، وتعرضوا لملاحقات ومطاردات ومهانات بسبب قانون “اجتثاث البعث”. وعلى خلاف الصورة الشائعة عن غلبة الوافدين من الخارج أو “الأجانب” في المنظمات الجهادية و”داعش” لاحقا، فإن ما يرويه العطار من سجنه “الداعشي” يبين أن تسميم المجتمع الأهلي الموصلي وما تعرض له من تقلبات ومظالم، دفع بكثيرين من الموصليين إلى أحضان المنظمات الجهادية، وإلى أحضان “داعش” الذي احتل المدينة تاليا، احتلالا داخليا.
فالعراق – ومنه الموصل – فَقَدَ مجتمعه، بعد انهيار ديكتاتورية صدام حسين، ما كان سائدا فيه من الكتمان أو الخرس الطائفي المفروض بالقوة في فضائه وحياته الاجتماعيين العامين، بسبب الديكتاتورية الأمنية عينها، سجونها ورعبها ومقاتلها ومقابرها الجماعية. كأن ما “حرّره” الاحتلال الأميركي في العراق، هو المشاعر والعصبيات الطائفية، إلى جانب إزالته النظام الأمني الديكتاتوري الذي كان القطب الاجتماعي الغالب والأقوى في مركز سلطته، سنيّ وعشائري وتكريتي (نسبة إلى مدينة تكريت). وكان الموصليون يشكلون نسبة لا بأس بها من الجيش العراقي وضباطه.
وفي عهد حكومة نوري المالكي والاقتتال الطائفي والمذابح الطائفية المتنقلة، صارت الطائفية ركن الحياة السياسية والعمل السياسي وتكوين السلطة والحكم في العراق. لذا تحولت لغة الحياة اليومية والمشاعر والانقسامات الطائفية بين الناس، وكذلك المؤسسات الدينية، الطائفية والمذهبية، الناظم الأساسي للعلاقات الاجتماعية، فيما المجتمع كله يتعرّض للتحلّل أثناء المقاتل الطائفية والتهجير والاجتثاث الطائفيين، وخصوصا في المجتمع السنّي. وهذا كله مهّد للاحتلال الداخلي الذي قام به “داعش” لمدينة الموصل وسواها من المدن العراقية السنّيّة.
حال الموصل اليوم
لكن على أي حال تعيش الموصل اليوم، بعد تحريرها سنة 2017 من الاحتلال الداخلي “الداعشي”؟
محمد العطار الذي تواصلت معه “المجلة” بعد توقيعه كتابه “زنازين الموت”، روى أن مدينتة ما بعد “داعش” تسلمتها ميليشيات “الحشد الشعبي” الشيعي، وأصبح أهلها السنّة متهمين بأنهم “داعشيون” أو من أنصار “داعش”. وقوات هذه الميليشيات لها مقار قيادية واستخباراتية في المدينة. وحين تُرصد أموال حكومية لتُصرف على مشاريع إنمائية فيها، فإن قوات “الحشد” تصادرها، إن لم تحصل منها على ما يُسمى “حصة الفصائل”، وهي الشطر الأكبر من تلك الأموال الحكومية. وقد أنشأت الفصائل ما سمّته “مكاتب اقتصادية” في جهازها الأمني، كي تجبي حصتها التي لا تُبقي سوى القليل القليل من المال للتنمية المدينية. فوق ذلك، تعرقل فصائل “الحشد” أي مشروع اقتصادي خاص أو تنشئة الدولة في المدينة، إذا لم تحصل على حصة من تمويله أو من استثماره. وفصائل “الحشد الشعبي” العراقية تنسج في هذا المجال على منوال “الحرس الثوري” في إيران.
أما الحريات العامة في الموصل فمتوافرة. فهناك بعض الصحف المحلية والمواقع الإلكترونية والنشاطات الثقافية. لكن شرط ألا يتعرض أحد بالكلام والنقد لفصائل “الحشد”. يمكن انتقاد الوزراء والنواب وحتى رئيسي الجمهورية الوزراء، لكن فصائل “الحشد” لا تُمس بكلمة.
مأساة الموصل تكمن اليوم، حسب العطار، في ما أصابها من التهجير والتدمير الاجتماعي والعمراني أثناء تحريرها من قبضة “داعش”.
كانت الخطة الحكومية لتحريرها تقضي بعدم محاصرة قوات “داعش” ومقاتليه حصارا كاملا ومطبقا في المدينة التاريخية القديمة، بل بترك منفذ لهم فيها يهربون أو ينسحبون عبره في اتجاه مدينة الرقة السورية، كي لا يؤدّي حصارهم الكامل وإجبارهم على القتال حتى الرجل الأخير منهم إلى تدمير المدينة. أما قوات “الحشد الشعبي” فكانت لديها خطة أخرى معاكسة، بحجة القضاء على “الدواعش” قضاء تاما، لكن هدفهم الحقيقي المبيّت كان تدمير الموصل القديمة.
والمعروف أن سكان المدينة القديمة من أفقر الموصليين، وبيوتها التراثية والأثرية المبنية من الجص والحجر الرملي، متهالكة وسريعة العطب والتصدّع، ويعود تاريخ بنائها إلى 400- 500 سنة، وهي لعائلات موصلية عريقة ومشهورة، كالجليلي، العمري، الصابونجي، وسواها. وقد نفذ “الحشد” خطته، فهجّر سكان المدينة من بيوتهم التي دُمرت مع المسجد الأول الذي بناه فيها عمر بن الخطاب سنة 22 هجرية. وكذلك تضررت قلعة الموصل الأثرية التي تشهد على الهزيمة التي ألحقها العرب المسلمون بالفرس.
وبعد مضي 6 سنوات على هزيمة “داعش”، لا تزال الموصل الأثرية القديمة مهدّمة مهجورة، وحظر على سكانها العودة إليها أو إعادة تشييد منازلهم المدمّرة، بحجةٍ مختلفة تقول إنها مزروعة بالألغام. ثم أُمِرَ محافظ الموصل بجرف البيوت القديمة المتصدّعة وغير المتصدعة.
والموصل كانت مدينة تنوع وخليط سكانيين. فإلى أكثريتها العربية السنيّة، هناك أقليات كردية وتركمانية وإيزيدية ومسيحية وسريانية وكلدانية وبروتستانتية. وإلى العدد الكبير من المهجرين السنّة، تضاءلت أعداد سكان الموصل من الأقليات. فـ90 في المئة من مسيحييها هجروها إلى كردستان العراق ولم يعودوا إلى أملاكهم فيها، بعدما كانت نسبة الموصليين المسيحيين 12 في المئة من أجمالي عدد سكانها.
مجلة “المجلة”
Be the first to write a comment.