قبل أي شيء: تسعى الدول في النظر لأولوياتها وإلى ما يحقق مصالحها بالدرجة الأولى، وفق محدداتها وأهدافها المستقبليّة نحو الوقائع وسرعة الأحداث السياسيّة التي تنهال على المنطقة العربية والشرق الأوسط، لكن هذه الوقائع أحدثت فجوةً كبيرة بين الشعوب وأنظمتها، لا بل قلبت الطاولة على ثورات الشعوب وتضحياتها.

استعاد بشار الأسد مقعده في الجامعة العربية وسجل حضوره لأعمال القمة ال 32 التي عُقدت مؤخراً في المملكة العربية السعودية بمدينة جدّة، بعد غياب استمر لأثني عشر عاماً، وعلى هذا يبدو أنّ ما تعرضت له شعوب المنطقة في العقد الأخير ينفصل كليّاً عن العلاقات الرسميّة الدوليّة، ويتجرد من الأخلاق ومعايير الإنسانيّة بالنسبة لسياسة الأنظمة العربية لقاء التّمسك بعروشها والبحث عن كلّ ما ينتزع مكاسبها.

إنّ ما أقدمت عليه الأنظمة من تطبيع علاقاتها مع النظام السوري يأتي في مضمار معاكس لما حملته ثورات الربيع العربي، التي انطلقت أوائل عام 2011، كما أنّ التّطبيع في حد ذاته لم تُهيأ له بيئة دوليّة ملائمة للاستجابة الفعليّة لإنهاء مأساة السوريين من خلال تطبيق قرار مجلس الأمن رقم 2254 الخاص بعملية الانتقال السياسي، والتّوافق على مشروع العودة الآمنة للاجئين، وإفراغ سجون الأسد من المعتقلين.

ومع تراجع الاهتمام الدولي بسوريا أواخر 2016 ودخول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، في يناير/ كانون الثاني 2017، واستلام الرئيس الديمقراطي جو بايدن في 21/1/2021، وتمكّن “روسيا وإيران وتركيا” عبر مسار “آستانة” من وضع تفاهمات عدّلت من موازين القوى، وجزأت الخارطة السوريّة وفق مناطق نفوذ مختلفة تديرها جماعاتٍ ذات طابع متعدد تحت مسمى الإدارات الذاتيّة، يظهر القبول الدولي بالأمر الواقع أي “عودة العلاقات العربية مع نظام الأسد” الذي بدا يفرض نفسه تدريجياً في الكثير من العواصم العربيّة والغربيّة.

وفي ضوء التّحولات التي تطرأ على ميزان العلاقات الدولية، وتولد قناعاتٍ عربية ما كانت سابقاً عقب اتباع أمريكا سياسة النأي بالنفس، وغياب الدور الأمريكي في إدارة الملفات العالقة كاليمن وسوريا، تصبح الأولويات السعوديّة في تغيير طبيعة علاقاتها، وتنويع خياراتها بما يخدم مصالحها الاستراتيجية على اعتبار أنّ ما يحدث في سوريا من فوضى وانفلات للأمن يهدد المنطقة برمتها، وأنه لا بد من حل للوضع السوري بالالتفاف على كل الخيارات المطروحة على الطاولة.

السياق الإقليمي والدولي المؤثر:
يأتي الحراك العربي والإقليمي ضمن سياقات متناقضة خضعت لعدّة طوارئ عصفت بالمنطقة، وبحسب الرؤية السعودية للمشهد، فإنّها تتحرك لإيجاد حلّاً للمأزق السوري ولانتشار الفوضى التي تغلغلت في دول الخليج عبر تجارة الممنوعات وتجارة الكبتاغون التي تديرها عائلة الأسد، فقرار عودة العلاقات مع سوريا في ظل وجود رأس النظام لم تكن لولا رغبة روسيّا وموافقة إيران لكونهما الحلفاء، لا سيما واتفاق التعاون في 10 أذار/ مارس الماضي الذي تمّ بين الرياض وطهران في العاصمة بكين كان نقطة تحول في مسار العلاقات السعودية الإيرانيّة، وبمثابة حلحلة الملفات العالقة بين الطرفين التي شكّلت تهديداً لأمن الخليج، فالمسألة السوريّة واليمنيّة كانت الأكثر تداولاً في ذلك الاتفاق التاريخي .

تسبب الزلزال الذي أصاب تركيا وسوريا في 6 شباط/ فبراير 2023 بتحول كبير في المنطقة والشرق الأوسط من حيث التفاعل والزخم الدولي ورفع العقوبات عن نظام الأسد ليتسنّى للمساعدات الدولية – الإنسانيّة – بالدخول إلى مناطق سيطرته دون عوائق، وهذا ما تمّ فعلاً وكأنّ حدث الزلزال شمّاعةً لإنقاذ الأسد من عزلته السياسية والاقتصادية، فكانت المساعدات الأوروبية والخليجية تصل لأيدي ميليشيا النظام، مع العلم أنّه فيما سبق فرضت “واشنطن” على نظام الأسد عقوبات بموجب قانون ” قيصر” الذي وقعه الرئيس السابق دونالد ترامب في 20 ديسمبر 2020 ومدته خمسة أعوام من تاريخ توقيعه القاضي بفرض العقوبات على أية حكومة أو شركة أو فرد يتعامل بشكل مباشر مع النظام السوري بما فيها مشاريع إعادة الإعمار.

فإذا سلمنا جدلاً بأنّ السعودية قادرة على تغيير المعادلة في سوريا برعاية دوليّة وتحت مظلة مجلس التّعاون الخليجي، فإنّها لا يمكنها تجاهل تركيا في ذلك بحكم الوجود العسكري في إدلب وريف حلب، ولأنها الدولة التي تمسك بمفاصل الملف السوري وتحتضن المعارضة على أرضها، إلى جانب مساعدة إيران وروسيا، لكن تكمن المشكلة في المسارات العربية التي تسوقها مساوماتٍ لا تنتهي، أمّا عن المخاوف الخليجيّة فسوف تبقى مرهونة بمدى استجابة إيران لسحب ميليشياتها من سوريا واليمن، وبالرغم من كل التّحالفات وتباين المصالح فما فعلته السعودية من وجهة نظرها تعتبره حصناً لها وكسراً للجمود والعزلة من خلال عودة الأسد إلى المحيط العربي بعدما اتفقت مع حلفائه روسيا وإيران وبدعم الصين، ومن ورائهم النوايا الأمريكية كتحصيل حاصل.

موقف المعارضة السورية:
موقف المعارضة الرافض للتطبيع لأنّ حل الصراع في سوريا وعودة اللاجئين الآمنة وإجراء انتقال سياسي لا يكون إلا بموجب قرار مجلس الأمن 2254 فما قامت به الأنظمة العربية في تطبيع علاقاتها مع نظام الأسد لا يشكل ضرراً كبيراً على السوريين في مقابل سقوطها أخلاقيّاً وإنسانيّاً، كما أن التّكلفة الأكبر للتطبيع هو انعدام شرعية المجتمع الدولي، طالما أنّ مجرم الحرب باقٍ في السلطة والعسكريين في نظام الأسد الذين استخدموا القتل الممنهج بالأسلحة الكيميائية والبراميل المتفجرة لإبادة الشعب، و ما فعلوه من تعذيبٍ وترهيبٍ للمعتقلين… لم يخضعوا للمساءلة!