ضربة إيرانية كبيرة محدودة الأضرار في إسرائيل. وضربة إسرائيلية محدودة ذات رمزية كبيرة في إيران. السجال الثنائي المباشر لم يعد مستبعداً، لكنه قد لا يتكرّر قريباً. أصبح كل طرف يعرف شيئاً عن قدرات الآخر، وإن قلّل كلٌّ منهما من تأثير ما حصل. تأكّدت طهران مما كانت تعلمه، فالحلفاء الغربيون سيدافعون عن “الكيان الصهيوني”، وفي المرّة المقبلة قد لا تسلم أراضيها، لذا كثّفوا من تحذيراتهم لها بالإدانات وبتغليظ العقوبات حتى لو لم تكن مجدية. وتأكدت إسرائيل بأن حربها على غزّة انتهت الى تفعيل الواقع المعادي الذي أنشأته إيران، بل ساهمت بتعظيم هذا العداء لها سواء بوحشيتها في غزّة وبإساءتها التعامل مع الفلسطينيين قبل الحرب وخلالها أو كذلك بإساءتها الى التطبيع مع العرب وسعيها الى توظيفه في طمس القضية الفلسطينية.

مع اقتراب الحرب على غزّة من نهايتها، ازدادت مؤشرات الشروع في تفجير حرب أخرى في الضفة الغربية، وازدادت احتمالات عملية عسكرية واسعة في جنوب لبنان. في الضفة كان التقصير (أو التواطؤ) الأميركي ملموساً منذ زمن في ضبط سياسات حكومات اليمين الاسرائيلي، ما سمح للعنصريين المتطرفين بالتمادي في استخدام “عنف المستوطنين” وسيلةً للتهجير، وسمح أيضاً بمأسسة الإرهاب الإسرائيلي واستمراره ضد الفلسطينيين، كما حتّم في المقابل اللجوء الى المقاومة وتطوير المواجهات في طولكرم وجنين ونابلس. الأمران سيؤدّيان الى وضع “غزّي” في الضفة، وهو ما تسعى اليه زمرة المتطرّفين الإسرائيليين تسويغاً لإرهابها، لكنه أيضاً ما تراهن عليه إيران استناداً الى “المقاومة” كأفضل وسيلة لإدامة الصراع.

في لبنان ربطت إيران و”حزبها” المواجهة “المضبوطة” في الجنوب بإنهاء الحرب على غزّة، لكن مفاوضات الهدنة وتبادل الأسرى أظهرت استحالة التوصّل الى اتفاق. فـ “حماس” ترفض وقفاً موقّتاً لإطلاق النار يعيد لإسرائيل رهائنها ثم تعاود الحرب بعده، وإسرائيل تعتبر الوقف النهائي لإطلاق النار “هزيمة” لها ما لم تقضِ على “حماس”. وهكذا فإن دائرة الخلاف مغلقة، ولا هدنة، ولا مجال للفصل بين جنوب لبنان وغزّة- كما يتمنّى الوسطاء الفرنسيون والأميركيون وغيرهم- لكن إسرائيل تؤكّد يومياً عزمها على مهاجمة لبنان، وهي قد تفعل، خصوصاً أن لديها الكثير من الدوافع والأهداف أهمها رفض التعايش مع الترسانة الصاروخية لـ “حزب إيران” وليس أقلّها وجود “كتائب القسام” واطلاقها صواريخ من جنوب لبنان.

لكن، قبل ذلك، هناك “عقدة رفح” التي يفترض أن تكون المعركة الأخيرة في غزّة. وعدا أن إيران نفسها لا تستطيع تمريرها من دون تصعيد، فإن “حزب إيران” سبق أن جمع فصائل “محور المقاومة” في لبنان للتداول في ما ستفعله متى بدأت معركة رفح التي ستقرّر عملياً مصير الجناح العسكري لـ “حماس”. يُتوقع، إذاً، أن تشعل هذه المعركة الضفة وجنوب لبنان المستهدفَين اسرائيلياً، وأن تشارك في الردّ عليها ميليشيات العراق وسوريا واليمن المستهدفة أميركياً. لذلك تتظاهر واشنطن بهندسة مختلفة للدخول الإسرائيلي الى رفح، على رغم تأييدها هدف “القضاء على حماس”، فيما تحاول عبثاً في تفاوضها غير المباشر مع طهران بلورة صيغة ما لـ “خروج حماس” من غزّة على رغم رفضها استمرار “حماس” كـ “حزب سياسي”. لكنها لم تنجح في الحالين.

تدرك واشنطن وعواصم حليفة أن اجتياح إسرائيل لرفح سيحسم اتهامها بـ “الإبادة الجماعية”، خصوصاً بعدما تكشّف عن مقابر جماعية في شمال غزّة وخان يونس. إسرائيل لا تكترث لهذا الاتهام، فماذا عن الذين يدعمونها؟

النهار العربي