«خسارة فادحة؟» علّق الشاعر السوري نزيه أبو عفش متعجبا من هذه العبارة التي كتبها ثائر ديب، الكاتب والمترجم السوري، لوصف رحيل الروائي والكاتب اللبناني إلياس خوري. «ربما يكون خسارة ليسار النصرة حتى قبل أن توجد». يعرّف أبو عفش اليساريين اللبنانيين والعرب، الذين أيدوا الثورة السورية بـ«يسار النصرة» (التنظيم السلفيّ المسلّح الذي يسيطر على شمال سوريا) ولكنه في 4 كلمات فقط: («حتى قبل أن توجد») يقوم أيضا بطمس مرحلة المظاهرات السلمية الكبيرة، التي عمّت أرجاء سوريا عام 2011، وكذلك طمس دور العنف الوحشي للنظام في ظهور التنظيمات الجهادية المتطرّفة. عقّب الشاعر السوري بالقول إن موت خوري قد يكون «خسارة حاضنة جريدة النهار، التي تعلم منها كراهية كل ما ومن هو سوري». كراهية خوري «لكل ما ومن هو سوري» حسب أبو عفش، «حتى لو كانت المفاضلة بين «جيش الدفاع إياه» والجيش السوري». بذلك ختم الشاعر تقييمه لخوري بتجريده من مكوّن أساسيّ في أدبه وسيرته الشخصية، وهو علاقته مع فلسطين (وبالتالي من عدائه لإسرائيل) كما يلغي سوريّة السوريين الذين لا يؤيدون النظام، فيصادق، بشكل ضمنيّ، على إبادتهم!
على إيجازه الشديد، وفي الضغينة المريرة التي أبداها، يحفل تعليق أبو عفش بعناصر ستشهد انفجارات كارثية لها بين السوريين، والفلسطينيين، واللبنانيين، مع اندلاع حدث 7 تشرين الأول/ أكتوبر ثم الحرب الإسرائيلية على غزة، وصولا إلى التداعيات الفظيعة لها في لبنان، كما تجلّت فصولها مؤخرا.

في مقالته «إلياس خوري منذ 2011» يقدّم معن البياري، رئيس تحرير صحيفة «العربي الجديد» صورة معاكسة لإلياس خوري، وانتباهة لسيرته وأدبه ونشاطه العام، يتركّز في محرقها الرابط الجامع الذي شكّله فكره بين اللبنانيين والفلسطينيين والسوريين. اعتبر البياري أن مواقف المثقفين العرب بعد هبّات الربيع العربي في 2011 و«ما صاروا عليه بشأن الثورات المضادة، الانقلابية وغيرها» «أهم مقاييس النظر» إليهم، منبها إلى أن خوري «اتسق مع نفسه تماما» عندما ناصر بشدة الثورات العربية، وعموم الانتفاضات في لبنان ثم في العراق والجزائر و«لم يأخذ نفسه إلى الهوى إياه، منازعة الإسلاميين، و«الإخوان» في صدارتهم، فيناصر الانقلابيين ضدهم».

إيران وسمير أمين!

تعرّض هذا «الرابط الجامع» إلى تصدّعات مهولة بعد عام 2011، فاتخذت كل الأطراف المولجة فيه قرارات سياسية خطيرة، استُخدمت (واستنفدت) فيها الرساميل الرمزية للأيديولوجيات وتراكبت على تاريخ معقّد من الصراعات الدينية والطائفية. أحد هذه القرارات كان اتخاذ إيران (وقسط من اليسار العربي والعالمي والمثقفين المعادين للإمبريالية مثل المصري سمير أمين، واللبناني جورج قرم) موقفا شديد التناقض من الثورات العربية، فدعمت ما حصل في مصر وتونس، والحراكات في البحرين والمغرب وغيرها، ولكنها، بعد تردد بسيط، وقفت بقوة شديدة ضد ثورة «المستضعفين» السوريين على نظام «البعث العلماني» الذي استماتت في محاربته في العراق، وهو ما جعلها، في نظر جمهور عربي عريض، في حلف موضوعي مع الولايات المتحدة الأمريكية، التي كانت العامل العسكري الأكبر في إسقاطه (من دون أن ننسى طبعا دور إسرائيل التي قادت التحريض ضد النظام العراقي في أمريكا والعالم الغربي)! انسحب هذا، بطبيعة الحال، على «حزب الله» اللبناني، الذي بعد أن كان موضوع إجماع السوريين برمّتهم، وأيقونتهم البطولية حين واجه إسرائيل عام 2006، كسر هذا الإجماع عبر قرار دخوله سوريا لدعم النظام وقتال السوريين.

بطاقتا ذهاب وعودة لـ«حماس»!

سبق ذلك انكسار رأس المال السياسي والوطني الذي راكمه الحزب عام 2006 في لبنان نفسها، بعد تحوّله من «المقاومة إلى الردع» (على حد تعبير الكاتب السوري راتب شعبو) فتحوّل من حركة تحرير وطني تحظى بما يقرب من إجماع عام إلى حركة فئوية تقصي غيرها، بدءا من التخلص من أشكال المقاومة الوطنية اللبنانية لإسرائيل التي لا تنتمي إليها، واغتيال رموزها، وتحجيم ممثلي الطائفة نفسها السياسيين («حركة أمل») وصولا إلى فرض قوتها على الدولة اللبنانية والطوائف والأحزاب الأخرى بقوة السلاح. ضمن مسلسل التعرّجات السياسية الحادة، حاولت حركة «حماس» الحفاظ على صوابية موقفها السياسي و«العروة الوثقى» الرابطة بين شعوب المشرق عبر مقاومة إسرائيل ومناهضة الاستبداد العربي (ولنسمّه هنا «برنامج إلياس خوري») حين أيّدت الثورة السورية عند انطلاقها وساهمت في أشكال من النضال السياسي والعسكري ضد نظام بشار الأسد. دفعت التحوّلات العاصفة المناهضة للثورات في المنطقة، التي أدت إلى سقوط التجربة الديمقراطية القصيرة في مصر، وتسببت في إحكام الحصار على قطاع غزة إلى وضعها تحت رحمة خيارات وجودية وقد أصبحت تحت حصار مزدوج من النظام العربيّ وإسرائيل معا.
يمكن المجادلة، هنا، إن كانت لدى «حماس» حينها خيارات أم أن اتجاهها إلى إيران ومحورها في المنطقة كان شبه إجباري. يجب الملاحظة هنا أيضا، أنه رغم ربطها مصيرها بمصير ما يسمى «محور الممانعة» فإن النظام السوري ظل يظهر الحقد ضدها، فلم يمنع إعلان عودتها إلى دمشق رسميا عام 2022، الأسد من انتقادها بشدة في مؤتمر القمة العربية الأول الذي حضره عام 2023 بعد تدهور علاقاته بأهم الدول العربية إثر ثورة 2011.

يوم قيامة سياسي ـ ثقافي

تعرّض الفلسطينيون واللبنانيون والسوريون مجددا إلى هزة كبرى بعد 7 أكتوبر، زادت في انقساماتهم، وما لبثوا أن تعرّضوا لامتحان عسير رهيب آخر بعد ضربات إسرائيل المهلكة لقادة «حزب الله» التي اغتالت في آخرها حسن نصر الله الأمين العام للحزب. إلى الأسباب السياسية العميقة التي ساهمت في تصدّعات المشرق، نضيف سببا خطيرا هو أن إسرائيل، استخدمت هجوم «حماس» لتحويل الانتقام من الحركة إلى حرب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين، ولبدء مشروعها الكبير للقضاء على الكيان الفلسطيني، كما أن الحرب على «حزب الله» تحوّلت، بدورها، إلى «حرب تطهير إثنو ـ مذهبي تستهدف طائفة كبرى من طوائف لبنان وليس فقط الحزب» كما يقول الكاتب اللبناني وسام سعادة.
تعرّض السوريون للإبادة بعد عام 2011 (وهو ما سمّاه الأسد بـ«التجانس» كونه أبقى في المجتمع السوري المؤيدين فحسب) وكان «حزب الله» شريكا علنيا للجلاد السوري فيها؛ ويتعرّض الفلسطينيون عموما، واللبنانيون من حاضنة «حزب الله» الاجتماعية في عام 2024 لحرب إبادة من قبل إسرائيل باعتبارها الوريثة الرسمية لضحايا الإبادة الألمانية اليهود! لم يعد الأمر يتعلّق بارتكاب الاتجاهات السياسية في «الشرق الأوسط» أخطاء سياسية باهظة، بل بانفتاح أفق موت وخراب عامّ يطال الجميع.
راكمت إسرائيل كل هذه الوقائع، وتعزز حلف الاحتلال والاستبداد مجددا، وانفجر بركان الضغائن والمظلوميات، واستعيدت شماتات انقلاب الدهر والمصائر فتبادل معارضو النظام العراقي السابق، المتحالفون مع أمريكا وإيران لإسقاط صدام، الكراسي مع معارضي النظام السوريّ الذين شمتوا باغتيال نصر الله المشتبك في حرب مع إسرائيل لأنه كان حليف النظام (الذي حمته إسرائيل) في مقتلتهم!
لقد آلت الأخطاء السياسية المكلفة إلى واقع مرعب قوامه التطهير العرقي والإبادة وجرائم الحرب الكبرى التي تطال كل شعوب المشرق، ولم تعد الأيديولوجيات، ولا الأديان، ولا المذاهب، قادرة على لأم الرعب العام والصدوع الفظيعة، فكأننا نشهد يوم قيامة سياسي ـ ثقافي مهول.

القدس العربي