المشهد العسكري بين إيران وإسرائيل ليست له ملامح الحرب الجديّة الخطيرة على الأمن الاقليمي ما لم تغامر إسرائيل بتوجيه ضربة ضد مفاعل أو منشآت نووية توعّدت طهران بالرد عليها بقصف مواقع نووية داخل إسرائيل. هذا خط أحمر. الوضع الراهن يوحي بأن هذه مرحلة تفاهمات وديّة بين عدوّين لم يسبق أن دخلا في حرب مباشرة حقيقية بينهما، لأن علاقتهما في صلبها تهادنية وساحة معاركهما خارج الأراضي الإيرانية والإسرائيلية.
الجولة الأخيرة من المواجهة لا سابقة لها لأنها كسرت تقليد تجنب شن هجمات مباشرة حين قامت إيران بهجوم بصواريخ ومسيّرات نحو الأراضي الإسرائيلية، انتقاماً لاستهداف إسرائيل قيادة “فيلق القدس” في القنصلية الإيرانية في دمشق. اللافت أن هذه الجولة كانت مُبرمَجة ومُنسقة عبر إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن. وزير خارجية إيران حسين أمير عبد اللهيان قال إن بلاده أطلعت الولايات المتحدة مسبقاً على العملية وتواصلت معها بعد العملية “حيث سعينا لأن نقول بصراحة ووضوح للولايات المتحدة في هذه الرسائل إننا لا نسعى لتصعيد التوتر في المنطقة”. فماذا يحدث الآن؟ وماذا بعد؟ من المستفيد؟ ومن يدفع الثمن؟
المستفيدان من شد العضلات هما إيران وإسرائيل بالدرجة الأولى. الخاسر الأول هم الفلسطينيون في غزة الذين لا تعتزم إسرائيل السماح بعودتهم من التهجير القسري، بل تنوي التقدم بوعود الرحمة الإنسانية لهم لدى تنفيذ هجومها على رفح للانتهاء من القضاء على البنية التحتية لحركة “حماس” في الأنفاق، بموافقة ضمنية أميركية وأوروبية.
الخاسرون الآخرون هم ساحات الحروب بالوكالة، أي سوريا ولبنان والعراق واليمن الذين تتوافق إيران وإسرائيل وإدارة بايدن والحكومات الأوروبية على استخدامها ذريعة وقحة هي تجنيب المنطقة مواجهة إيرانية – إسرائيلية مباشرة.
هذا المستوى من الوقاحة الاستراتيجية ليس له مثيل. في السابق، وعندما كانت إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما وحلفاؤها الأوروبيون يتوسلون إيران لتوافق على الاتفاقية النووية، قرروا جميعاً الإذعان لشرط إيران بألّا يتدخلوا في سياساتها الإقليمية. وهكذا باركوا عقيدة استخدام إيران وكلاءها وأذرعها لتدوس على سيادة أربع دول عربية ولضرب الأمن والاستقرار فيها خدمة لرجال الحكم في طهران. اليوم، وصلت تلك الوقاحة الاستراتيجية إلى مرتبة مذهلة بذريعة إنقاذ المنطقة من الحروب الإقليمية المدمّرة.
لن تقع حرب إقليمية ما دامت المهادنة الإيرانية – الإسرائيلية التاريخية مستمرة، وما دامت إدارة بايدن ترعى التفاهمات الضمنية في المسيرة التهادنية. انتهت اللعبة الخطيرة. لا حرب ثنائية ولا حرب مُفاجِئة. ستستمر المناوشات المنسّقة، وستستمر الحرب بالوكالة، وستمضي إسرائيل باستهداف إيران وإيران إسرائيل ضمن “قواعد اشتباك” مضبوطة.
كلتاهما ستمتنع عن ضرب الأخرى في الصميم وبقوة، وستكتفي بعمليات لطيفة لإنقاذ ماء الوجه. وكلتاهما ستستخدم الأراضي العربية للانتقام باسم الحروب بالنيابة عبر الوكلاء. هذه هي استراتيجية الاستباحة لسيادة الدول العربية وشعوبها بمباركة ضمنية دولية. منتهى الوقاحة الاستراتيجية.
لا حرب إيرانية – إسرائيلية، فكلتاهما في أمان إلى سلام انتقالي رغم لعبة العداء الانتقامي.
أهم ما حصلت عليه إيران نتيجة هجومها المدروس والمنسق بالمسيّرات والصواريخ على إسرائيل هو أن النظام في طهران أنجز ما هو الأهم في حساباته: هذا الهجوم السابقة حشد الدعم للنظام على الصعيد الداخلي المحلي. بذلك تم احتواء التململ في صفوف القاعدة الشعبية عبر نسف الانطباع بأن النظام بات نمراً من ورق. وهذا أهم إنجاز لرجال النظام.
ثانياً، فرضت الحكومة الإيرانية حساباتها وأولوياتها على الولايات المتحدة والدول الأوروبية، بما يضمن مصلحتها الأولى وهي لجم إسرائيل عن ضرب المنشآت النووية في إيران، وبالتالي ضرب البرنامج النووي الإيراني الذي تقدّم كثيراً نحو حيازة القنبلة النووية.
وفي المعلومات، حذّرت إدارة بايدن إسرائيل من أيّ مغامرة يصر عليها المتطرفون في الحكومة الإسرائيلية لتوجيه ضربات على المنشآت النووية، وأوضحت أن إسرائيل ستكون بمفردها إذا قامت بمثل تلك الخطوة ولن تتلقى التغطية الجوية الأميركية الضرورية لمثل هذه العملية. لن تقف الولايات المتحدة مع إسرائيل إذا ضربت بعرض الحائط موقفها وإنذارها، هذه كانت الرسالة الأميركية الجليّة لإسرائيل، وهي الرسالة ذاتها التي أبلغتها إياها الدول الأوروبية، لا سيّما تلك التي شاركت في ردع الهجمات الصاروخية الإيرانية على إسرائيل.
وبالتالي، إن تلك الهجمات بالمسيّرات والصواريخ، جديّة كانت أو استعراضية، أدّت بإدارة بايدن وشركائها إلى تبني موقف حماية البرنامج النووي من عمليات إسرائيلية ضده. وهذا أمر فائق الأهمية، وخطير.
قد تكون المكافأة الأميركية – الأوروبية لإسرائيل مقابل عدم ضرب المنشآت النووية الإيرانية هي الضوء الأصفر لعمليات رفح، كما تردد، وهذه أيضاً مقايضة خطيرة لها أبعاد فائقة الأهمية. بين هذه الأبعاد استعداد طهران لأن تضحي، ليس فقط بفلسطين التي ترفعها شعاراً يلبّي تموضعها الإقليمي، بل تضحي أيضاً بحركة “حماس” بعدما استنفدت فائدتها وبات مستحيلاً إنقاذها.
وهذا يأتي بنا إلى الإنجاز الثالث لإيران وهو إبلاغ الرسالة إلى كل من يعنيه الأمر في منطقة الشرق الأوسط بأن إيران، بعدما أثبتت أنها قادرة ومستعدة لشن الصواريخ على إسرائيل، هي قوة إقليمية بمثابة قوة إسرائيل الإقليمية. إنه تموضع لا يُستهان به في موازين القوى الإقليمية.
صحيح أن إيران فتحت صفحة جديدة مع السعودية، لكن ليس هناك أي مؤشرات إلى أنها تنوي تعديل عقيدتها لتكف عن استخدام الوكلاء في اليمن والعراق وسوريا ولبنان. وصحيح أن إسرائيل تريد التطبيع مع السعودية، لكنها ترفض حتى الآن تمكينها من التطبيع بأدوات ضرورية في طليعتها الحقوق الفلسطينية البديهية بدولة. بل إن إسرائيل تنفّذ عقيدتها الأساسية وهي التهجير القسري للفلسطينيين والاستيلاء على بيوتهم وأرضهم كوسيلة لإنهاء كلمة احتلال وشطبها. هكذا تتلاقى إيران وإسرائيل مرة أخرى في التموضع التكتيكي بهدف تقزيم الوزن العربي في المعادلة الاستراتيجية.
أين أدوار الشركاء/الوكلاء/ الأذرع في معادلة المهادنة والتصعيد المدروس بدقة احتوائه؟ الذراع الحوثية لإيران ستبقى ضرورية كأداة لدى طهران في تكتيك الترغيب والترهيب مع الولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل، مع كامل الحرص على حماية المصالح الصينية والروسية في البحر الأحمر. أمن الملاحة الدولية في البحر الأحمر مرتبط بتقدير مدى خدمته للمصالح الإيرانية. اليمن ليس سوى رهينة لدى إيران، بشعبه وفقره وبؤسه وقصر نظر قيادات الحوثيين فيه الذين يدركون أنهم ليسوا سوى أداة قابلة للاستغناء عنها بعدما تستنفد مهمتها للمصلحة الإيرانية لا اليمنية.
“حزب الله” سيستمر في ما يعتبره استنزافاً لإسرائيل عبر الجبهة الشمالية لها، فيما واقع الأمر هو أن الاستنزاف متبادل وأن أهل الجنوب يدفعون ثمن قرار “حزب الله” خدمة إيران ومصالحها على حساب المصلحة الوطنية للبنان وشعبه. قرار إيران هو تكليف “حزب الله” استنزاف الثقة الإسرائيلية بنفسها والاستمرار باللعب بأعصابها. توتر إسرائيل هو هدف ضمن التكتيك الإيراني وتوتير إسرائيل على حساب أعصاب اللبنانيين وأمنهم استراتيجية إيرانية لضرب أكثر من عصفور بحجر. ما تراهن عليه طهران و”حزب الله” هو عدم قدرة إسرائيل على شن هجوم جدّي شامل على البنية التحتية للحزب في لبنان ما دامت أيديها مربّطة في غزة، وما دام الاستنزاف مقيّداً في قواعد الاشتباك وضمن لعبة المصالح والاعتبارات الإيرانية.
العراق ساحة مستباحة لإيران لاستخدامها عبر الفصائل التابعة لها كما ترتئي. أما سوريا فإنها ساحة مستباحة لإسرائيل التي تنوي من خلالها أن توجّه الرسائل إلى طهران في لعبة القنص خارج الأراضي الإيرانية.
فبنك الخيارات الإسرائيلية في لعبة القط والفأر مع إيران يشمل في طليعته الساحة السورية. ذلك أن أسهل الخيارات قد يكون ضرب مواقع إيرانية في سوريا لأنه لن يأتي بعواقب دولية على إسرائيل، ولأن اقتناص الجنرالات الإيرانيين في سوريا أسهل بكثير من استهدافهم داخل الأراضي الإيرانية. وإذا كان خيار إسرائيل استهداف شخصيات في النظام الإيراني، فالسؤال الأهم هو: أين؟ داخل إيران أم في سوريا؟
استهداف حاملات نفط إيرانية في البحر الأحمر موجود في بنك الخيارات الإسرائيلية رداً على الهجوم الإيراني المباشر السابق على إسرائيل، لكن هذا خيار سيزعج الجميع لأسباب ذات علاقة بأسعار النفط وتأثّرها عالمياً.
الصين اتخذت مواقف علنية للتأثير على إيران ودفعها إلى الاكتفاء بعمليات هجومية ذات نتائج جد محدودة، مؤكدة أنها تعارض حرباً إقليمية. العلاقة بين الصين وإيران ليست فقط نفطية بل هي عسكرية واستراتيجية أيضاً. لكن للصين علاقات مع إسرائيل تدخل في مجال التكنولوجيا المتفوقة والتي تحرص الصين عليها كثيراً.
الأرجح أن تتبنى إسرائيل التكتيك الإيراني القائم على شد العضلات بلطف ونعومة وعلى التصعيد اللفظي والاكتفاء بالقليل. ذلك أن كلتيهما تريد ثمناً ومكافأة للتراجع عن تصعيدها ولتأجيل التوعد بالانتقام. كلتاهما تريد ثمناً من الولايات المتحدة وأوروبا. ثمن لا يقتصر على السلاح والذخيرة لإسرائيل ولا على حراسة أمن البرنامج النووي لإيران مع وعود رفع العقوبات عنها. فلكل من إيران وإسرائيل عقيدة متطرفة، والتطرف يخدم بعضه البعض الآخر. كلتاهما تنفذ استراتيجيتها المريضة متلحفةً بالوقاحة الاستراتيجية كصمام أمان.
النهار العربي
Be the first to write a comment.