دشّن انهيار السلطنة العثمانية في عشرينيّات القرن الماضي حقبةً جديدةً، وأطلق صراعاتٍ تكاد لا تنتهي في عموم المشرق العربي، غالباً ما تختلط فيها النزاعات الداخلية على السلطة بالصراعات الدولية. لكنْ هناك دائماً، داخل هذه الصراعات مُتعدّدة الأطراف والأبعاد، والمستمرّة منذ قرن ونيّف، صراعٌ محوريٌّ تدور حوله وتتهيكل به النزاعات الأخرى. بدأت هذه الحقبة بالصراع بين الدول الأوروبية، فرنسا وبريطانيا خاصّة، بتقاسم أشلاء السلطنة ورسم حدود دولها كما لا تزال قائمة. أعقبه الصراع بين الحركات الاستقلالية وسلطات الوصاية الاستعمارية، وانتهى بصراعٍ محوريّ شقّ العالم إلى قطبين؛ شرقيّ وغربيّ، وأعاد تشكيل الخريطة السياسية والجيوسياسية داخل الدول التابعة، وفيما بينها، فانقسم العالم العربي، كبقيّة مناطق العالم، بين نظم اشتراكية تابعة للمعسكر الشرقي، وأخرى مرتبطة بالغرب ومستندة إليه في حماية حدودها وتنمية اقتصاداتها.

لكنّ انهيار الاتحاد السوفييتي في الحرب الباردة دشّن حقبة فريدة سيطرت فيها الولايات المتّحدة على القرار وأجندة السياسة الدوليَين، استغلّتها واشنطن لتحقيق مكاسب متعدّدة الأشكال على حساب جميع الدول والشعوب الأخرى، وفرضت نفسها قطباً أوحدَ يملك حرّية التصرّف الكامل في شؤون العالم، في المستوى الكلّي، وفي مستوى الأقاليم، بل الدول والجماعات القبلية والأحزاب السياسية. لكنّ “القيادة الأميركية للعالم”، كما لم يكفّ عن التذكير بذاك الشعار القادة الأميركيون، بذريعة الحفاظ على السلام والاستقرار العالميَين، لم تكن تعني في الواقع سوى إعطاء الأسبقية للمصالح الأميركية الاستراتيجية والنفعية على حساب دول العالم قاطبة، بما في ذلك الحلفاء الأوروبيون.

كانت نتائج هذه القيادة كارثية في الصعيدَين، الإقليمي والعالمي. فقد لعبت السيطرة الأحادية التي تمتّعت بها واشنطن بعقل الرؤساء الأميركيين، وأدّى استخدام القوة المفرطة في التدخّلات العسكرية والسياسية والاقتصادية، التي أصبحت أسهل وسيلة للضغط على الحكومات والدول الرافضة للتبعية، إلى تدمير التوازنات الدولية، وزعزعة استقرار المجتمعات، وتفكيك الدول، وتقويض سلطة القانون الدولي، كما أظهرت ذلك حالات العراق وأفغانستان، وفلسطين التي تحوّلت فيها الحرب الاستيطانية حربَ إبادة جماعية في غزّة.

وبدل أن تساهم الحرب ضدّ الإرهاب، التي فرضها الأميركيون على دول العالم لإكراهها على الالتحاق بواشنطن، والقبول بالعمل على أجندتها، في تعزيز السلام والاستقرار في الشرق الأوسط عملت على توسيع نطاق انتشاره في العالم أجمع، وعمّقت الشكّ بالقيادة الأميركية، وبالهدف من تدخّلاتها العشوائية. وفي سياق التآكل المتزايد لشرعية القيادة الأميركية العالمية وتصعيد الاعتراضات على سياساتها التدخّلية، بما في ذلك لدى الحلفاء الأوروبيين، تطوّرت في مختلف مناطق العالم، ولدى الدول الصناعية الصاعدة خاصّة، آمال التحرّر من القبضة الأميركية القاسية، وتشكيل تجمّعات تحمي مصالحها مثل تجمع “بريكس” واتفاقية شنغهاي، وغيرها، في الوقت الذي دخلت فيه العلاقات الأميركية الروسية والصينية في حالة من التوتّر، إن لم يكن الحرب، كما في أوكرانيا، وإعادة مناخات الحرب الباردة بشكل أكثر حدّةً وخطورةً.

وفي منطقة الشرق الأوسط، التي تقدّم الدليل الأبرز على إفلاس السياسات الأميركية، التي أنتجت من الكوارث أضعاف ما حلّت من المشكلات، لم يعزّز تدمير العراق وتحييده الاستقرار الذي ادّعته واشنطن في هذه المنطقة الحيوية. بالعكس، لقد فتح نزع الصمّام العراقي أبواب الجحيم على الدول العربية والخليجية بإتاحته لطهران الخروج من معزلها التاريخي، والاندياح في مسرح الشرق الأوسط، بكلّ ما تملكه من قوّة. لقد قُدّم لها المشرق العربي على طبق من ذهب تحرث فيه كما تشاء، لا من أجل فكّ الحصار المفروض عليها فحسب، وإنّما من أجل أن تفرض نفسها شريكاً لواشنطن في تقاسم ثروات منطقة كانت حكراً شبه كامل عليها.

ومنذ عقدين، أصبح المشرق العربي ضحيّة الصراع الإيراني الأميركي، وفقد أيّ إرادة مستقلّة أو أجندة سياسية واستراتيجية. وفي هذا الصراع، تستخدم طهران استراتيجية النَفَس الطويل والحرب غير المباشرة وغير النظامية، التي تعتمد على استغلال موارد وتجنيد أبناء الشعوب، التي زعزع الأميركيون أنفسهم، وبمشاركة حلفائهم المفضّلين في تل أبيب، استقرارها. فلا تزال طهران تخوض، منذ بداية القرن، من خلال وكلائها المحلّيين، من عراقيين ولبنانيين ويمنيين وسوريين وأفغان وباكستانيين، وغيرهم، حرباً واسعةَ النطاقِ وغير مسبوقة، هدفها زرع الفوضى وتقويض أركان الدول الضعيفة، وتفكيك مجتمعاتها، وابتلاعها، مستفيدة من الفراغ الكبير الذي أحدثه تحييد مصر وتدمير العراق وإلحاق سورية بحكم أسرة محلّية عميلة ومتوحّشة. ولا تزال المنطقة المشرقية تعيش على وقع الصراع بين طهران ومن ورائها الصين وروسيا في الظلّ، من جهة، والولايات المتّحدة وحربتها الإقليمية إسرائيل، من جهة أخرى، من أجل إعادة تشكيل الشرق الأوسط، وفرض إرادة كلّ منهما على شعوبه، والتحكّم بموارده ومصيره.

… تعتقد إيران، وتعمل على أساس أنّها هي القوة الأكبر، الجيوسياسية والثقافية والتقنية، في المنطقة، ومن حقّها أن تكون صاحبة الدور الأول في صوغ أجندتها السياسية، في مقابل، أو بموازاة، أو بالاشتراك مع الولايات المتّحدة والغرب، وأن يكون لها النفوذ الذي تحتاجه وتستحقّه، ويعكس قوّتها الحقيقية الظاهرة والكامنة. والرهان الأكبر في هذا الصراع هو السيطرة على منطقة الخليج العربي التي لا تضمّ أكبر ثروة مركّزة في منطقة صغيرة وهشّة في العالم، منجميّة وماليّة، فحسب، وإنّما موقعاً جيوستراتيجيّاً استثنائيّاً أيضاً.

فبخلاف ما يبدو للوهلة الأولى، ليس الصراع الجاري في نظر طهران بين العرب والإيرانيين، وإنّما بين طهران، التي تعتقد أنّ المشرق مجالها الحيوي الطبيعي وجزء من متاعها، من جهة، والولايات المتّحدة ومن ورائها الغرب حليفها من جهة ثانية. وهي ترى في نفسها الوريثة الشرعية لحركات التحرّر والثورات ضدّ الهيمنة الأجنبية، وأنّ من واجبها ودورها قيادة شعوب المنطقة للتحرّر من هذه الهيمنة الأميركية، وليس هناك في المنطقة من يمكن أن ينافسها أو يستحقّ أن يكون ندّاً لها، لا تركيا ولا السعودية ولا مصر ولا سورية ولا العراق، وهي في المقابل الندّ الوحيد في الشرق لأميركا، التي تحول دون احتلال موقعها الطبيعي، الذي ينذرها له مركزها الديني، ومكانتها الثقافية، وإنجازاتها العسكرية والتقنية. أمّا إسرائيل، فهي ليست خصماً إلّا بمقدار ما هي أداة في يد الهيمنة الأميركية. الخصم الحقيقي هو واشنطن، وإذا احتاج الأمر، فلا شيء يمنع طهران من أن تناور مع تل أبيب، وتتعاون معها، إذا اقتضت الضرورة، كما فعلت أثناء الحرب الإيرانية العراقية، لتحقيق أجندتها في المنطقة. وبالمثل، ليست السيطرة على العراق وسورية ولبنان واليمن مهمّة وأساسية إلّا بمقدار ما تمهّد الطريق للسيطرة على الجزيرة العربية، التي تجتمع فيها مصادر الشرعية الرمزية الدينية، والثروة الاستثنائية، والهشاشة أو الفراغ الاستراتيجي.

هذا يعني، أيضاً، أنّ طهران لا ترى في الدول العربية منافساً أو خصماً، ولا طرفاً في الصراع الدائر، إنّما طريدة سائبة، يتنازع الجميع عليها، وهي الأَولى بها جغرافيا وتاريخياً ودينياً، لا الغرب ولا روسيا، ولا الصين أيضاّ. وكما أنّها لا ترى في النخب العربية الحاكمة ندّاً يستحقّ الاعتبار، وإنّما عملاء للغرب، وأدوات في خدمته، فهي لا تنظر إلى سكّانها شعوباً لها مطالب ومصالح وتطلّعات وأجندات تنموية أو سياسية يجب احترامها أو أخذها بالاعتبار، في الحدّ الأدنى، وإنّما تنظر إليها بوصفها أدواتٍ لخدمة المشروع الإسلامي/ الإيراني، أي الإمبراطوري. وليس من مهمّاتها، اليوم، تحقيق التنمية أو بناء الديمقراطية أو الحديث في حقوق الإنسان، إنّما التمرّد على حكوماتها ودولها، والالتحاق بالمليشيات الإيرانية، والانخراط معها لإلحاق الهزيمة المُنكَرة بالغرب. وينطبق هذا على فلسطين، التي لا ترى طهران في قضيّتها سوى تفصيل صغير تستفيد من تبنّيه لخدمة قضيتها الكبرى. وقد حان الوقت، مع أفول الهيمنة الغربية، كي تستعيد مكانتها، وتؤكّد دورها، بوصفها الوريث الشرعي للإمبراطورية الإسلامية التاريخية، التي أخفقت في تجديدها، في العقود الماضية، الحركات القومية العربية والتركية. هذا هو التفكير الذي يقود سياستها الإقليمية والدولية، وما يفسّر الاستثمار المركزي في الصناعات والتنظيمات العسكرية والقتالية، بما في ذلك مشروع الصناعة النووية، فهي الوحيدة التي تستطيع أن تحقّق، اليوم، الحلم العظيم، الذي أخفقت في إنجازه القومية العربية، وتخلّت عنه الحركة الكمالية التركية، وهو تحرير الشرق من التبعية التاريخية للغرب، وتحويل المنطقة قوّةً مستقلةً صاحبةَ قرارها، وشريكاً ندّاً في صياغة القرارات والسياسة الدولية. لذلك، لا ترى طهران نفسها أيضاً، أقلّ أو أدنى مرتبة استراتيجية من الصين أو روسيا. وهي تتنازع معهما أيضاً، في إطار التحالف التكتيكي، الذي تقيمه معهما ضدّ الهيمنة الغربية. وفي هذا الصراع تمتشق طهران ورقتَين حاسمتَين للشرعية في تجسيد وقيادة هذا المركز الإمبراطوري في المشرق مقابل المراكز الأخرى العالمية، هما أولاً، الإسلام، وما يمثّله من مصدر عقائدي وإلهامي، ومن إرث حضاري، وكتلة بشرية كبرى تنشد الاعتراف والاحترام والمشاركة في صناعة المصائر العالمية للبشرية. ثانياً، القضية الفلسطينية، التي تجسّد صراع الشعوب ضدّ آخر قلاع السيطرة الاستعمارية الاستيطانية الغربية، وما تمثّله من قضية إنسانية عادلة، وتحدّياً مصيرياً استراتيجيا لشعوب المنطقة، وقبلة دينية متعدّدة الأطراف.

.

… لم تولد إيران، التوسّعية والمتمرّدة على الغرب وشعوب المنطقة، من عدم. لقد صعدت على أنقاض الخراب الذي خلّفه الاجتياح الأميركي الإسرائيلي للشرق الأوسط العربي في عقود. ولم يتغذَّ وحش التغوّل الخامنئي من الفراغ، وإنّما على ما تركه التغوّل الأميركي الإسرائيلي من جثث الشعوب والقضايا العادلة المغدورة. وهو لا يعادي واشنطن ولا إسرائيل الممثّلة لها في المنطقة، وإنّما يقاتل من أجل زيادة حصّته من الفريسة العربية. فما يوحّد بين طهران الخامنئية وواشنطن الإمبريالية هو التفاهم على تحييد المشرق العربي ونزع أنيابه وتفكيكه ما أمكن، لتسهيل ابتلاعه، أمّا ما يفرّق بينهما فهو الخلاف على اقتسام الغنائم والمصالح المتنازع عليها.

لذلك، ليس هناك أيّ سبب كي تسعى أميركا إلى تدمير مشروع إيران في المنطقة، لأنّ إيران لا تهدّد وجودها، وإنّما تتنازع معها فريسة عربية من الممكن بسهولة التوصّل إلى قسمة “عادلة” فيها، وتخادماً دائماً ومثمراً طويل المدى. فهي تحتاج إليها بمقدار ما تتنافس معها. وليس هناك شكّ في أنّ طهران وواشنطن نجحتا من خلال هذه العلاقة في تقسيم العالم العربي معسكرَين تابعَين لهما، وأداتين في خدمة استراتيجيتهما. وكما أنّ واشنطن تستطيع عند اللزوم أن تجرّ طهران إلى طرفها بمساومتها على مكانتها ومصالحها في المشرق على حساب العرب، فإنّ طهران لن تدخل في صراع مع واشنطن، ولا مع ذراعها في تل أبيب، وتدع الطريدة العربية تفلت منها. إنّها لا تبحث أبداً عن حرب مع الولايات المتّحدة، وإنّما عن التفاهم معها على تقاسم المصالح والنفوذ في المنطقة، التي لا تزال واشنطن تصرّ على احتكار السيطرة فيها وعليها. وهذا هو هدف استراتيجية الحرب الطويلة وغير النظامية، التي تمهّد في مرحلة تالية لمفاوضات، وقد بدأت عملياً، ومن ثمّ، التعاون على إدارة المنطقة. مشكلة طهران أنّ واشنطن كانت ترفض أيّ مشاركة لها معتدّة بقدرة إسرائيل في ردع جميع المطالبين بها، محلّيين كانوا أو أجانب.

لكن، رغم عدم التوصّل إلى اتّفاق، نجحت طهران وواشنطن في تنازعهما في تقسيم العرب بينهما، وتجنيدهم في صراعهما الإقليمي. وكلتاهما واثقتان في قدرتيهما على تمويل الصراع طويلاً على حساب العرب ومن جيوبهم. ويمكن القول إنّ نصف دول المشرق العربي قد سقط في الأسر من خلال هذا الصراع. أمّا الخليج، الذي هو درّة العقد، ومن الصعب على واشنطن أن تسمح بالتقاسم فيه، فهو يواجه معادلة صعبة. فكما أنّ الانحياز لأميركا لا يقدّم أيّ حماية جدية، يشكّل الرهان على تحييد إيران، بالحوار أو المفاوضات، وهماً لا يمكن للاتفاقية السعودية الإيرانية، برعاية الصين، أن تحوّله حقيقة. فإيران لن تتوقّف عن متابعة خطّتها للهيمنة الإقليمية، التي تمرّ حتماً بتدمير دول المشرق العربي وتحويلها، كما حصل للعديد منها حتّى الآن، أدواتٍ في آلتها الحربية غير النظامية، وعبئاً على الغرب. وبخلاف ما يتمنّى بعضهم، لن تعمل طهران لصالح العرب وفلسطين وتخسر رهاناتها مع أميركا والغرب، بل إنّها لن تتردّد في التحالف مع تل أبيب عندما يتمّ التفاهم مع واشنطن على اقتسام الغنائم العربية. كما أنّ واشنطن لن تغامر بمعركة مع طهران، التي تسعى إلى تجنّب خرمشاتها لصالح أيّ دولة أو قضية عربية، ولكنّها توظّف التهديد الإيراني لدفع الخليج إلى الالتحاق بإسرائيل.

والولايات المتّحدة والغرب، اللذان فقدا المبادرة الدولية، حتّى لو بقيا يمثّلان القوّة العسكرية والاستراتيجية الأكبر في العالم، لن يحميا الخليج وثرواته وأنظمة حكمه ونخبه الحاكمة، ولكنّهما سيستفيدان من الضغط الإيراني عليه، ليزيدا من ابتزازهما له واستغلال قلقه وخوفه من أجل انتزاع المزيد من التنازلات، وإجباره على التطبيع المجّاني مع إسرائيل، الوكيل الحصري للمصالح الأميركية في المشرق. وعندما تحين الساعة، سيتخلّى الغرب عن إسرائيل نفسها، ويسعى إلى حماية مصالحه في المنطقة بالتحالف مع الأقوى، أي مع الشيطان.

هل غيّرت حرب غزة شيئاً في هذا الصراع؟ … ما حصل من مقاومة الفلسطينيين الأسطورية، وتضحياتهم الاستثنائية، ومن نكسة عسكرية وسياسية وأخلاقية حقيقية لإسرائيل، يفتح معركة، موازية للمعركة الدائرة منذ عقود للسيطرة على الشرق الأوسط، هي معركة فلسطين، ويدفع إلى إعادة ترتيب أجندة السياسة الإقليمية حالياً، على الأقلّ لصالح المسألة الفلسطينية. هكذا، تتحوّل فلسطين من ذريعة تُستخدم في الصراع الإيراني على النفوذ إلى قضية محوريّة، لم يعد من الممكن أن تستخدمها طهران للدعاية والضغط فحسب. وهذا يُعقّد المسألة على طهران، ويزيد من تكاليف الصراع الذي تخوضه منذ عقود. وهو يُعقّد المسألة أيضاً، على واشنطن، فضرب هيبة إسرائيل خسارة استراتيجية كبيرة لأميركا، وإضعاف لموقفها الإقليمي.

ثمّ إنّ ما حصل يُقدّم، بالإضافة إلى ذلك، فرصة استثنائية للحكومات العربية، إذا ما عرفت استخدامها، لإعادة موضعة نفسها في الصراع الثنائي، والدخول فيه طرفاً له مصالح يدافع عنها، بدل من أن تكون كما هي الآن؛ طريدة “يتهاوش” عليها الآخرون. والأمر يتوقّف على طبيعة الدور الذي سوف تلعبه الحكومات العربية في تحديد المَخرَج من هذه الحرب. فإذا نجحت في وضع حجر الأساس لمشروع دولة فلسطينية، تضع حدّاً للتغوّل الإسرائيلي وتُحرّر العرب من الحرب الدائمة منذ 75 عاماً، فسوف تفقد إيران أهمّ مصدر من مصادر دعايتها ومناورتها الاستراتيجية. وبالعكس، إذا قبل العرب التطبيع المجّاني مع إسرائيل، إرضاءً للأميركيين، سيتضاعف رصيد طهران السياسي في حربها مع واشنطن على اقتسام مصالح العرب، وإمكانية الوصول إلى تسوية أميركية إيرانية على حسابهم، ويتعمّق تماهي واشنطن مع تل أبيب.

يبيّن ما سبق ذكره أنّ ما يعيشه المشرق هو أزمة جيوسياسيّة بنيويّة، وبالتالي، لا ينبغي أن نتوقّع نهاية لعهد الفوضى والنزاعات متعدّدة الأقطاب وزعزعة الاستقرار والدمار قبل أن ينجح العرب والخليجيون أولاً، في حلّ نقطة الضعف الرئيسة، التي حوّلتهم طريدةً تتنازع عليها الدول، بدلاً من أن يكونوا، حسب وضعهم ومواردهم المادّية والبشرية، الفاعل الرئيس في منطقتهم، وهي (نقطة الضعف) الفراغ الاستراتيجي والافتقار للقوّة الذاتية الحامية والرادعة. ولن يتحقّق هذا من دون مراجعة جذرية لسياسات العرب الأمنية الإقليمية وتجاوز الانكفاء إلى الحسابات القطرية، والرهان على تخزين السلاح، بدل تطوير استراتيجية مشتركة، وتعاون استراتيجي قويّ يؤمّن القوى المادّية والبشرية لتشكيل قوّة ذاتية حامية للمصالح الخليجية والعربية. هذا الفراغ الاستراتيجي هو ما يسمح لواشنطن أنّ تغرز مخالبها في جسد الدول العربية، ويُغري إيران، وربّما غيرها في المستقبل، بالتنافس معها على الفريسة العاجزة. فمن دون حلّ هذه العقدة لن يكون المستقبل مختلفاً عن الماضي، بل ربّما أسوأ بكثير. ولا تنفع الثروة الكبيرة في ردّ هذا التحدّي لأنّها، بالعكس، هي التي تثير لعاب الفاتحين.

هل هذا ممكن اليوم؟… نعم. لماذا يكون ممكناً الاعتراف بإسرائيل وليس ممكناً تعميقُ التعاون العربي؟ لماذا تستطيع إيران أن تخوض حرباً بالوكالة ضدّ أميركا في المنطقة، وتنازعها اقتسام المصالح العربية، ولا يستطيع العرب التفاهم على إيجاد مركز قوّة لحماية مصالحهم تجاه الأميركيين والإيرانيين المتنازعين على ثرواتهم، والمتفاهمين على تجريدهم من سيادتهم؟ لا يزال ممكناً اليوم، لكنّه لن يكون كذلك بعد حين. كلّ ما يُحتاج إليه التغلّب على الخوف المزمن وتجاوز انعدام الثقة بالذات، وبالآخر القريب، وبالشعور بالمسؤولية إزاء ما تعانيه شعوب المنطقة من موت وتشرّد وبُؤس، وما يهدّد وجودها ذاته من مخاطر. وأخيراً، تجنّب تكرار سيرة ملوك الطوائف الأندلسيين ومصيرهم.

العربي الجديد