يقدم العراق هذه الايام نموذجاً فريداً عن بلد عربي إضافي، غير قابل للحكم. هو لا يسير خلف قافلة تضم حاليا نحو ثمانية او تسعة بلدان عربية، بينها لبنان طبعا، تغرق في الفراغ والفوضى، بل هو يتقدمها، منذ أن وضعته الاقدار على حدود الثورة الخمينية في إيران وتحول الى سوق رئيسي لتصدير منتجاتها الثورية المتنوعة..حتى شاءت الصدف أخيراً، وبعد عناء إمتد نحو عقدين من الزمن، أن يبرهن على أن شيعته بالذات غير أهل للحكم، ولا حتى للمعارضة.
الزلزال الايراني الذي ضرب العراق قبل نحو اربعين عاماً، لم يكن الاقسى والاخطر، بالمقارنة مع الغزو الاميركي الاعنف والاسوأ، والذي لم يكن بإمكان بلد هش التكوين والبنيان أن يصمد أمامه، فكيف بأن يخرج منه سالماً، ويسلك طريق إقامة دولة مستقرة، بالحد الادنى من المعايير السياسية الديموقراطية، التي تستبدل العنف المتأصل في الشخصية العراقية، والمتجدد في ظل الاحتلال الاميركي، بالتسويات والتفاهمات والحوارات داخل المؤسسات، بدلا من الاعتماد على حكم المليشيات وعقليتها وبرامجها المستوردة.
سقوط العراق الراهن هو بالتأكيد نتاج تلك التركة الاميركية المتسرعة، المتواطئة، مع حلفاء الغزو وشركائه. النظام الذي بدأت معالمه تظهر في العام الاول من الاحتلال الاميركي ينهار الآن، لأنه بني على باطل، وعلى خلل جذري في التعاطي مع “المكونات” العراقية، وفي تحديد الاكثريات والاقليات، وفي توزيع المناصب والحصص.. حتى إنسد الأفق امام الجميع، وشهدت مرحلة ما بعد الانسحاب الاميركي جولات عنف أكبر مما شهدته مراحل المقاومة للغزاة. وسجل الشيعة في تاريخهم الحديث ثاني تواطؤ مع المحتلين الاجانب، بعد التواطؤ الاول في افغانستان في العام 2001.
الحكم على هذا السلوك متروك للمستقبل. لكن، ما لا يحتمل التأجيل هو التقييم الذي لا يجادل، في أن ذلك “النظام العراقي” الجديد، دخل منذ اللحظة الاولى في مأزق لا مفر منه سوى بالاستئصال. توالت الازمات والنزاعات والاختراقات والاشتباكات المسلحة، حتى ارتفعت الحواجز النفسية بين “المكونات” القومية والطائفية والمذهبية أكثر من أي وقت مضى..الى أن انتهى الامر أخيراً على عتبة ما كان يسمى “البيت الشيعي”، (وهي بحد ذاتها تسمية معيبة)، وإشتعلت الحرائق المتتالية في محيط هذا البيت، قبل ان تنتقل اليوم الى داخله، وتهدد جميع رموزه من دون استثناء بالتصفية، أو بفقدان الأمان حتى في منازلهم.
من ذلك البيت، الافتراضي أصلاً، خرجت شخصيات وحشود، تنازعتها الولاءات الايرانية والاميركية، وانفجرت صراعاتها القديمة، مع كل إشتباك أو حوار بين طهران وواشنطن، وتفاعلت عمليات نهب ثروات العراق ومقدراته، بين المنتمين الى “المذهب الواحد” على نحو ليس له مثيل في العالم، وفي تحدٍ صارخٍ لجميع المعايير والاحكام الدولية، ولإرادة الجيل الجديد من العراقيين الذين خرجوا الى الشوارع في العام 2019، وجرى الفتك بهم على الطريقة البعثية الصدّامية إياها.. ما حال دون مشاركتهم في الانتخابات النيابية الاخيرة في تشرين الاول الماضي، التي أوصلت المأزق السياسي الشيعي الى شلل تام، تجري الآن ترجمته الى عنف في الشوارع.
على سيرتهم الدائمة، يمضي العراقيون اليوم، وشيعتهم بالتحديد، في الطريق نحو الهلاك. ليس هناك مرجعية دينية قادرة على التوفيق في ما بينهم. المرجع السيد علي السيستاني فقَد الاجتهاد في وقف النزف الشيعي. وهو يعرف بلا شك، أن إعتزال مقتدى الصدر وكاظم الحائري معاً وفي وقت واحد، من المرجعية السياسية والدينية، لم يكن وليد الصدفة: طهران تستخدم آخر أوراقها للدفاع عن حلفائها الشيعة المحاصرين في مساكنهم. لكنها تدرك أن الارض العراقية تميد تحت أقدامها، ولم تعد تثق بشيعتها لكي يكونوا عوناً لها في الصعاب التي تمر بها، والتي تجعل مفاوضاتها النووية مع أميركا ملاذها الاخير قبل العودة الى داخل حدودها التي تخطتها قبل نحو أربعة عقود.
موقع المدن
Be the first to write a comment.