في وسع المرء أن يضرب أخماساً بأسداس إذْ يقف على ظاهرة الزعيم الشيعي العراقي مقتدى الصدر كما تقرأها أسبوعية الـ»إيكونوميست» البريطانية العريقة، غير البعيدة عن أن تكون المنبر الأهمّ لبيوتات المال والأعمال والشركات العملاقة ومناهج اقتصاد السوق، فضلاً عن تمثيل الفلسفات الليبرالية المختلفة، متوحشة كانت أم «مُؤنْسَنة». وما دامت جولات الصراع الراهنة في العراق تدور أساساً بين الأطراف الشيعية، «التيار الصدري» مقابل «الإطار التنسيقي»، أو على وجه أقرب: بين مقتدى الصدر ونوري المالكي؛ فلم لا تعود الـ»إيكونوميست» القهقرى إلى 1149 سنة خلت، حيث يروي التراث الشيعي عن غيبة الإمام محمد بن حسن بن علي المهدي، واقتراح تأويل عصري لاعتزالات الصدر المتكررة يضعها في مصافّ الغيبات!

وقد يقول قائل، محقاً في وجهة واحدة على الأقل هي استمرار سطوة التراث الشيعي الإثني عشري: لِمَ ملامة الأسبوعية البريطانية في هذه العودة إلى سنة 873 حين غاب المهدي، إذا كان رامي مخلوف (ابن خال رأس النظام السوري، وتمساح النهب الأشرس والأجشع المُطاح ببعض نفوذه مؤخراً لصالح ناهبات/ ناهبين صاعدات وصاعدين)، قد استعاد رمزية المهدي مؤخراً، متشكياً من ظلم الأرض: «العلامات الكبرى ستظهر (والله أعلم) في الأشهر القليلة القادمة وستقتلع الظلم من جذوره على مستوى العالم بأسره ليتمّ التحضير لدولة الحق بقيادة سيدنا المهدي عليه السلام». فارق الـ»إيكونوميست» أنها، مع ذلك، لا تسبغ على الصدر سمات قداسية من أي نوع، بل تحرص على ردّه إلى ما هو فيه: «رجل الدين والسياسي المثير للشغب»، الذي يبدو كمَن يقتفي أثر رمزية الغيبة لإلهام المؤمنين به وتحدّي ظالميهم.

ومع استبعاد فوري لأيّ مستوى من المقارنة بين شخص الصدر وشخص مخلوف (وهذه خطوة ليست ضرورية إلا عند هواة التسطيح والقراءة البليدة عن سابق قصد)، فإنّ اللجوء إلى التلويح بعودة المهدي عند الثاني ومنهجية الاعتزال/ الغيبة عند الأول تنتهي إلى مراد متماثل، حتى إذا تشعبت عناصره وأغراضه: تجييش الأنصار عبر تسخير رمزية مذهبية شيعية، حتى إذا كانت فاعلية التوظيف متضاربة أو حتى متناحرة. فمن المعروف أنّ الصفّ المناوئ للتيار الصدري شيعي بدوره، ولا يفتقر البتة إلى رمزيات كثيرة مستمدة من التراث الإثني عشري ذاته؛ بل يكفي المرء استذكار اسم الميليشيات الأكثر تورطاً في الممارسات المناوئة (على غرار «عصائب أهل الحق» بقيادة قيس الخزعلي) لإدراك مدى انخراط الميليشيات في استهلاك، وانتهاك، الرمزيات الشيعية.

ليست خافية، كذلك، آمال مخلوف في تحشيد فئات من أبناء الطائفة العلوية باتت تميل باضطراد إلى الفقه الشيعي الكلاسيكي أو الإثني عشري، حتى مع بقائها وفية للمكوّنات التقليدية النصيرية؛ والمطمح هنا جرّ بعض أنصار رأس النظام السوري إلى التعاطف، ولكن على خلفية انخراط مخلوف في «التظلّم» إلى المهدي. وثمة مغزى خاصّ، كذلك، في أنّ مخلوف لم يكتفِ بالإتيان على اسم المهدي، بل تقصد استخدام تعبير «صاحب الزمان»… الأثير عند حسن نصر الله في خطب عديدة؛ بما يفضي إلى طراز (أحمق بالطبع، وغير مُجْدٍ) من الإيحاء بالانضواء في صفّ «حزب الله» وأدبياته، ضدّ خصوم مخلوف (أسماء الأخرس، ثمّ بشار الأسد شخصياً وأوّلاً).

مَن يلوم مخلوف، إذن، في هذا الاستدعاء الوصولي لشخصية المهدي؟ وهل تُلام الـ»إيكونوميست»، استطراداً، في هذا الابتسار الاستشراقي وتوصيف اعتزال الصدر بمصطلح غيبة المهدي؟ وإذا صحّ أنّ كلا الاستدعاء والابتسار يقتضي ما هو أبعد من الملامة، وأقسى من تهمة الانتهاز المفضوح عند الأول والتسخيف الهجين عند الثانية؛ فإنّ الحقيقة الأخرى تظلّ ماثلة وساطعة، لجهة تكرار اعتزالات الصدر ورجوعه عنها، والتسبب في كلّ مرّة بأوجاع إضافية لا يكون دافع أثمانها الباهظة أو الدامية سوى المواطن العراقي البسيط والمعذب.

القدس العربي