التطورات المتسارعة في إسرائيل منذ صعود اليمين الصهيوني الديني إلى السلطة، دفعتني إلى العودة إلى الفيلسوف الإسرائيلي يشعياهو ليبوفيتش، الذي حذر من الحمى القيامية التي رافقت الانتصار الإسرائيلي في حرب حزيران- يونيو 1967، معتبراً أن «الاحتلال سوف يقود إلى ولادة مجتمع نازي – يهودي».

الولادة حصلت، لكنها ليست سوى مؤشر على زمن النهايات الذي دخلته إسرائيل عبر فوضى سياسية وتضارب في الصلاحيات وهوس كولونيالي وخوف من انهيار ما يسمى بـ «الديموقراطية الإسرائيلية».

كيف نقرأ هذا المجتمع الجديد الذي يتشكل؟
كان الشاعر اللبناني خليل حاوي يستعير بشكل دائم عبارة الشاعر الرومانسي الإنكليزي بيرسي بيش شللي: «عندما تعجز الفلسفة تستعين بالشعر». أما اليوم، فمن أجل أن نفهم ما يجري، ربما صار علينا أن نستعين بالرواية أيضاً.

الرواية التي أقترح إعادة قراءتها من جديد هي رواية الإسرائيلي عاموس كينان: «الطريق إلى عين حارود»، التي صدرت طبعتها العبرية الأولى عام 1984، كما صدرت ترجمتها العربية في مجلة «الكرمل»، قبل أن تنشر في كتاب مستقل عن دار الكلمة في بيروت. قام بترجمتها إلى العربية أنطوان شلحت، وقدم لها سميح القاسم.

لماذا هذه الرواية الآن؟
هل لقيمتها الأدبية، أم للأبعاد السياسية التي أشارت إليها؟ أم لأنها تصف ما كان يفترض بأنه من المستحيلات، فإذا به يتشكل بعد أربعين سنة أمام أعيننا؟

هذه الرواية لا تحمل أي بعد أدبي استثنائي، ولا تضيف على المستويين الشكلي والفكري جديداً على الأدب الإسرائيلي.

لكنها تحمل أهمية خاصة على المستوى السياسي والاجتماعي، إذ إنها تخترق البنية السائدة حول مجموعة من الأساطير الإسرائيلية، كطهارة السلاح، والديمقراطية، واستحالة الحرب الأهلية، معلنة أن قوانين التفسخ تسري أيضاً على المجتمع الإسرائيلي.

غير أن المؤلف لم يستطع أن يخترق الوعي الإسرائيلي الذي جعل من العربي شخصية هامشية في الأدب العبري. فالعربي الأخرس أو الشبح أو المجنون يتجسد هنا في شخصية محمود.

تبدأ الرواية بمشهد الإسرائيلي رافي، الذي يقتل الذين حاولوا اقتحام بيته، ثم يبدأ رحلة الهرب إلى عين حارود.

هناك انقلاب عسكري في إسرائيل، والطرقات يقطعها الجيش ليس على الفلسطينيين كما جرت العادة بل على اليهود، والقتل في كل مكان.

لكن رافي لا يستطيع الوصول إلى عين حارود إلا إذا وجد عربياً يساعده، لأن العربي يعرف الأرض، «عليّ أن أجد عربياً، من دون مساعدة عربي لن أنجح في الوصول إلى وادي عارة، كل خطتي للهرب مبنية على العرب»، يقول رافي بطل الرواية وراويها.

مرة جديدة، نحن أمام «العربي كحلّ أدبي». محمود الذي التقى به رافي في بيارة، يقود الراوي على الطرقات الوعرة، لكنه يبقى تابعاً لليهودي. فكينان بقي أسير الترسيمة الإسرائيلية لدور العربي، الذي سيبقى هامشياً، رغم أنه «يمشي على الأرض كما يحوم النسر في الفضاء».

اللافت أن البطل الإسرائيلي للرواية يعترف: «أنا الذي طرد العرب من هنا»، ويلاحظ القرى العربية المهدمة التي غطيت بمساحات خضراء.

متن الرواية يدور حول الفوضى التي تعم إسرائيل والتصفيات الجسدية والانقلاب العسكري والرعب الذي يصاحب احتمالات الحرب الأهلية.

تأخذنا الرواية إلى رحلة هروب معقدة، تتداخل فيها الشخصيات، من لينورة إلى البريغادير الإسرائيلي إلى الكهوف والمغاور.

كأننا أمام صور للنهايات التي تجتاح الكيان الصهيوني، من خلال التفكك الاجتماعي والسياسي والثقافي.

جنود يعدمون يهوداً ويرمونهم في مقابر جماعية، وكلام قذر يطفو على سطح اللغة، ورحلة تنتهي بمقتل العربي على يد الجيش الإسرائيلي، أما مصير رافي فيبقى معلقاً في المجهول.

هل وصل رافي إلى عين حارود؟
«سأذهب إلى عين حارود، وهناك، في عين حارود، سوف أبدأ كلّ شيء مرّة أخرى من جديد، إنما بشكلٍ مغاير. في عين حارود سيربض النمر مع الجدي، وستولد الأرض من جديد، ويعود كلّ شيء يزهر ثانية».

هل سيبقى مكان لليوتوبيا وسط هذه الديستوبيا التي تحتل فضاءات أمكنة الرواية؟

هل وُجدت عين حارود أًصلاً؟ لا شيء يدلنا عليها سوى كلام الراوي. وإذا وجدت فإن رافي لن يعثر عليها، وحده الفلسطيني محمود يعرف الطريق.

هذه الرؤية القيامية التي نراها في رواية عاموس كينان تبدو اليوم أحد احتمالات مسار الانحدار الإسرائيلي نحو احتمالات الحرب الأهلية في المجتمع اليهودي.

هذا لا يعني نهاية إسرائيل، فالبنى الدولتية التي بنتها الصهيونية بالغة التعقيد، وستقاوم احتمالات انهيارها بكل الوسائل. غير أن ما نشهده اليوم على المستوى الإسرائيلي هو نهاية الأساطير.

الأسطورة انتهت وصارت الدولة الصهيونية في الوعي مجرد دولة استعمار كولونيالي بلا أقنعة.

فعين حارود التي بحث عنها عاموس كينان وبطله البائس، ماتت. إسرائيل ليست مكان خلاص اليهود من عبودية العنصرية الغربية، بل هي مكان استسلامهم لهذه العبودية.

يكتب الراوي: «الذي كنتهُ مات، والذي أردتهُ مات. والذاكرة أيضاً ماتت. أنت فقط حيّ. أنت فقط لا تزال حيّاً».

عن أي ذاكرة يتكلم؟
هل سأل محمود، الذي سقط مضرجاً بدمه، عن ذاكرته الفلسطينية؟ هل فهم كيف ولماذا يمشي المهزوم على الأرض بقدمين ثابتتين؟ هل سأل الأرض عن حاضرها المجبول بذاكرتها؟

من يريد الذهاب إلى عين حارود، عليه أن يمر أولاً بمخيم جنين أو بنابلس العتيقة، وهناك سيكتشف أن المكان الذي يبحث عنه لا يدعى عين حارود. فهذا المكان لم ولن يغير اسمه الفلسطيني.

القدس العربي