يسود صمت كبير مجموعات النشطاء على وسائط التواصل الاجتماعي في الشمال السوري، بسبب استمرار قطع الاتصالات عن ريف حلب الشمالي منذ أحداث الإثنين الماضي الدامية في عفرين والشمال التي سقط على إثرها 9 قتلى برصاص عناصر الحماية لمقر مساعد الوالي التركي في منطقة عفرين وقرب معبر باب السلامة وجرابلس الحدوديين مع تركيا. ويعيش مليون سوري في مناطق الشمال في حالة عزلة عن العالم والتواصل والوصول إلى المعلومات فيما يشبه سياسة العقاب الجماعي.

وتستغل فصائل الجيش الوطني الموالية لأنقرة قطع الإنترنت لشن حملة اعتقالات بأوامر أمنية تركية ضد النشطاء الذين هاجموا النقاط العسكرية أو قاموا بإنزال الأعلام التركية أو تمزيقها، وفي سابقة من نوعها، بثت قناة «تي آر تي» الرسمية شريطا مصورا لطفل سوري يدعى فداء الخالد من بزاعة بريف حلب الشرقي، يقر من خلاله بتهجمه على العلم التركي، وأعرب انه «نادم على ذلك» وفي جزء مقتطع من الشريط لم تنشره القناة الرسمية ونشرته معرفات تركية أخرى، يظهر الطفل الخائف وهو يقوم بتقبيل العلم. وعنونت «تي آر تي» الفيديو بـ «أجهزة الأمن والاستخبارات التركية تقبض على أفراد اعتدوا على العَلم التركي شمال سوريا، بعد الأحداث في ولاية قيصري التركية، وقد أبدوا ندمهم واعتذارهم عما فعلوه». وفي الجزء الثاني من المقطع الذي بثته المحطة الرسمية، يظهر شابان – كان أحدهما قد بث تسجيلا مصورا لنفسه، يوم الإثنين، اطلعت عليه «القدس العربي» يعترف بتمزيق العلم التركي- وكأنهما في غرفة تحقيق ويردد أحدهما ما يبدو أنه يتلى عليه وعلامات الخوف والرعب بادية على الشابين.

في حين نشرت المعرفات التركية شريطا مصورا لأحد الشباب من ريف حلب الشرقي أيضا، يقف بين علم الثورة السورية والعلم التركي، يقول «تحت ضغط وسائل الإعلام وتحريض البعض والحماس الذي كان بغير مكانه أنزلنا العلم التركي» واعتذر من التصرف الذي وصفه بالأرعن وناشد بالصفح عنه، ويوضح أسلوب كلامه انه يقوم بالقراءة من شاشة أمامه، وفي نهاية المقطع يقبل العلم التركي عدة مرات ويضعه على رأسه.

إلى ذلك، وزعت الشرطة العسكرية في كل من عفرين واعزاز والباب وجرابلس والراعي، صورا لمطلوبين قاموا بالهجوم علي المقرات التركية أو إنزال الأعلام التركية، وعلمت «القدس العربي» أن فرع الشرطة العسكرية في عفرين وزع صور وبيانات 7 مطلوبين على حواجزه في المنطقة، بينهم أحد عناصر الجيش الوطني حصلت «القدس العربي» على التعميم الخاص باعتقاله، ويدعى علي حسن وينتمي إلى الفيلق الأول في الجيش الوطني حسب الوثيقة، وهو شقيق القيادي في الجيش الوطني ميسرة حسن الحجازي الذي حاولت الشرطة العسكرية اعتقاله كرهينة كي يقوم شقيقه بتسليم نفسه، وينحدر الرجلان من بلدة منغ التي تسيطر عليها قوات النظام السوري وقوات سوريا الديمقراطية «قسد». وفي وقت سابق، بث حسن شريطا مصورا أمام مبنى السراي الحكومي في عفرين وهو المقر الإداري لمساعد الوالي التركي في أنطاكية والذي يشرف على المنطقة أمنيا، وظهر حسن وهو يطالب القوات التركية بالخروج من الشمال السوري، وتتحفظ «القدس العربي» على نشر التعميم الخاص بالحسن حرصا على سلامته ومنعا لتداول بياناته الشخصية.

وفي الإطار، قال المرصد السوري لحقوق الإنسان، ومقره كوفنتري في بريطانيا، إن القوات التركية وبمساندة من الشرطة العسكرية شنت حملات اعتقال في ريف حلب الشمالي، بعد تحديد هويات الأشخاص الذين شاركوا بالاحتجاجات ضد الأتراك والفصائل الموالية لها «عبر إعادة مشاهدة ما التقطته كاميرات المراقبة». واعتقلت القوات التركية، 4 مواطنين في إعزاز ونقلتهم إلى تركيا، وفي عفرين اعتُقل 8 مواطنين، تم اقتيادهم إلى جهة مجهولة دون معرفة مصيرهم حتى اللحظة.

وأعلن كل من فصيلي «سليمان شاه» و«فرقة الحمزة» المقربين من أنقرة عن مساندتهما لحملة الاعتقالات، ونشروا قواتهم في عفرين، وأشار المرصد أن من بين القتلى الذين سقطوا في مواجهات الإثنين الدامي في عفرين هناك 5 من المقاتلين السابقين من مهجري الغوطة الشرقية الذين جرى تهجيرهم وفق الاتفاقيات الروسية التركية أو «الغوطة الشرقية مقابل عفرين».

في سياق متصل، ارتفع عدد قتلى المواجهات إلى 9 سوريين في مناطق مختلفة في الشمال السوري وجرح 47 بينهم 3 في غرف العناية المشددة، وأغلب القتلى سقطوا أمام مبنى السراي في عفرين. وجرى تشييعهم بحضور جماهيري كبير، رفع المشيعون خلالها عدة شعارات ومطالب أبرزها رفض التطبيع مع النظام وتشكيل لجنة عليا لمتابعة وضع اللاجئين داخل الأراضي التركية ورفض فتح أي معبر مشترك مع النظام السوري وربط ذلك ببدء عملية الانتقال السياسي، وأشارت المطالب إلى أن «العمل مع الأتراك يكون وفق المصالح المشتركة ومنع تدخلهم بعمل المؤسسات الثورية مع إعادة هيكلتها بما يخدم أهداف ومبادئ الثورة» وطالبوا بتشكيل حكومة طوارئ فورية لمدة ستة أشهر، إضافة إلى تشكيل هيئة سياسية منتخبة من الداخل ممن يرتضي من أحرار وثوار سوريا واستقلال القضاء العسكري والمدني وإعادة هيكلة الحكومة المؤقتة والائتلاف.

وفي ظل الصمت الرسمي للمعارضة السورية واكتفائها بإطلاق تصريحات وبيانات منددة بـ «العنصريين «الأتراك، وجه رئيس تيار سوريا الجديدة الدكتور ياسر العيتي كلمة مصورة ومترجمة إلى اللغة التركية، أرسلت إلى «القدس العربي» ونشرت على قناة التيار على «يوتيوب» قدم من خلالها تعازي التيار للشعب السوري وأهالي القتلى الذين وصفهم بالشهداء، ووصف ما جري يوم الإثنين بأنه احتجاجات شعبية قام بها السوريون نصرة لأهلهم في تركيا واحتجاجا على ما تعرض له السوريون في قيصري.

وطالب التيار بتشكيل «لجنة تحقيق مستقلة تشكلها نقابة المحامين لمعرفة ملابسات إطلاق النار أثناء الاحتجاجات السلمية ومحاسبة المسؤولين عن ذلك واطلاع الرأي العام على نتائج التحقيقات».

كما أدان البيان الاعتداءات في قيصري وطالب الحكومة التركية بمحاسبة المسؤولين عن الأعمال العنصرية هناك وتعويض اللاجئين السوريين المتضررين ماديا ومعنويا واتخاذ سياسة صارمة صد العنصريين حتى لا تتكرر هذه الحوادث التي تسيء للعلاقة بين الشعبين، وأشار إلى أن الروابط التاريخية والثقافية والدينية بين الشعبين «تتجاوز الحسابات السياسية المتغيرة باستمرار».
وحث الحكومة التركية على «مراجعة إجراءاتها تجاه اللاجئين السوريين» خصوصا فيما يتعلق بأخطاء السيستم فهي ليست من مسؤولية اللاجئين وإعطاء السوريين فرصة لإصلاح مخالفاتهم بعيدا عن الطريقة القاسية. وثمن الاحتجاجات في الشمال السوري كونها تعبر عن تضامن السوريين مع بعضهم وعن الشعور بكرامة الإنسان السوري والذي من أجلها قامت الثورة. ورفض اللجوء إلى العنف خلال الاحتجاجات والتعرض للمواطنين الأتراك في الشمال السوري مذكرا انهم في «حماية الشعب السوري الحر ولا يجوز التعرض لهم بسوء».

ودعا العيتي إلى احترام رموز الدولة التركية وعلى رأسها العلم التركي ورفض الإساءة إليها، وفي المقارنة، شدد على أن احترام السوريين لأنفسهم «يدفعنا ألا نرفع غير علم واحد فقط هو علم الثورة» واعتبر رفع أي علم لأية دولة أجنبية «مخالفة وطنية وقانونية».

وحذر أن المنطقة قابلة للاشتعال بأي وقت وربط الحل الجذري لمشاكل الشمال السوري بمسألتين، هما إيجاد هيئة عامة تراقب عمل الحكومة، وأن يكون هناك بروتوكول مكتوب ينظم ويحدد العلاقة بين الحكومة التركية والحكومة الموقتة بحيث لا يكون هناك أي تدخل تركي في عمل حكومة المعارضة. وأعرب عن رفضه لتعيين المجالس المحلية من وراء الحدود وإعطاء أوامر شفوية لرئيس المجلس المحلي.

وختم رئيس التيار أن تركيا هي منفذنا الوحيد إلى العالم ومن مصلحتنا نعلي درجات التعاون والتنسيق وفرق بينها وبين التبعية واستلاب القرار.

على الجانب التركي، انتقد الدكتور عمر جرجرلي اوغلو، النائب عن حزب الأخضر في البرلمان التركي سياسة الحكومة التركية وردود فعلها تجاه أحداث قيصري وقال إن 70 ألف سوري تضرروا وإن العنصريين دمروا 21 محلا تجاريا، وذكر بأحداث دامية عاشتها تركيا سابقا خلال فترات متعددة، وخاطب حزب العدالة والتنمية الحاكم خلال جلسة للبرلمان بثت على الهواء مباشرة قبل يومين: «من كان لمدة 13 عاما يريد أن يسقط النظام في سوريا؟ فجأة تراجعتم؟» واستهجن تصريحات وزير الداخلية التركي ورئيس دائرة الهجرة في قيصري وردود فعل جهاز الشرطة في المدينة.

ويشير استمرار أنقرة بقطع الإنترنت عن الشمال السوري إلى اضطراب في طريقة التعامل مع الاحتجاجات الأخيرة وتجاوز فصلها، ويضع الأجهزة الأمنية التركية في إحراج شديد في حال عدم معاقبة كل المحتجين الذين قاموا بإزالة الأعلام التركية، ولكن معاقبة عشرات الشبان المتورطين بالمسألة يجعل السلطات في مأزق، فاعتقال الجميع ونقلهم إلى تركيا ومحاكمتهم سيجعل المنطقة في مهب الريح وسيدفع مع الوقت إلى المطالبة برحيل القوات التركية من سوريا ويعرض استقرار المنطقة إلى هزات كبيرة وهي التي تعاني منه في الأصل.

القدس العربي