بضعة أيام وتصبح حاكمية المصرف المركزي اللبناني شاغرة بدورها، بعد مرور تسعة شهور على شغور الرئاسة الأولى. وإذ يُعتبر انتخاب رئيس جديد مفتاح “الحلول” للمرحلة المقبلة، فإن تعيين حاكم جديد للمصرف يُفترض أن يكون لإنهاء نهج الإهمال والتراشق بالاتهامات إزاء افلاس الدولة. ربما يتّفق اللبنانيون على أن دولة بلا رئيس لم تعد تقدّم أو تؤخّر في أوضاعهم، أخذاً بما كان عليه الواقع منذ نهاية 2019، أما أن لا يكون هناك مرجع مالي “مسؤول” فهذا يُنذر بمرحلة أخرى من الانهيار. لم يكن وجود رياض سلامة مطمئناً إلا للمنظومة المستفيدة منه، وهي لم تُقصِ حتى اللحظة الأخيرة إمكان التمديد له، لولا أن مصداقيته بلغت مستوى صفرياً. أما من ينوب/ أو ينوبون عنه فلا يتمتّعون بحمولته المزمنة من التسويات مع المنظومة، ولذلك فمن الطبيعي أن يطالبوا بـ “تغطية قانونية” واضحة للتدابير “التقنية” التي سيضطرون اليها ولمطالب التمويل الحكومية.

في السياق، يستفيق الجميع الى أن المليارات القليلة من الدولارات المتبقّية لدى المصرف المركزي بالكاد تكفي لدفع رواتب الموظّفين ودعم كميات متضائلة من الأدوية. وإذ يخطط نواب الحاكم لـ “تحرير” سعر الدولار، كإجراء “تقني” يتغطون بأنه من شروط صندوق النقد الدولي، فإنهم يتجاهلون أن للصندوق خطة متكاملة تقوم على أساسٍ مبدئي هو أن هناك “دولة” يجري التعامل معها من خلال “حكومة” ذات صلاحيات لتنفيذ حزمة الإصلاحات المطلوبة، لكن المنظومة بقيادة “حزب إيران/ حزب الله” ترفض فعلياً أي اصلاحات. وبالتالي فإن تحرير سعر الصرف مرتبط كلياً بمدى سيطرة الدولة على اقتصادها، وعلى الأنشطة التجارية الحدود والمطار والموانئ… لكن في الحال الراهنة، وفي ظل اجتياح النزوح السوري وهيمنة السلاح الإيراني، قد يتوجّب على صندوق النقد الدولي (وهو ما لن يفعله) أن يتفاوض مع المصرفين المركزيين التابعين للنظامين السوري والإيراني، فضلاً عما تسمّى “الأمانة السورية للتنمية”، فهذه الجهات ووكلاؤها اللبنانيون (بموازاة العراقيين) استغلّوا الفوضى لشفط ما أمكن من الدولارات في لبنان (كما في العراق) لدعم جهود “الممانعة”.

بعد اجتماع اللجنة “الخماسية لأجل لبنان”، الأسبوع الماضي في الدوحة، أصبح شبه مؤكّد أن الفراغ في رئاسة الدولة سيستمر ويتمدّد، ومعه فراغ في حاكمية المصرف، والكلّ ينظر حالياً الى منصب قائد الجيش الذي سيشغر أيضاً في غضون خمسة شهور. كلّها مواقع (مارونية) مترابطة ويصعب ملؤها بأشخاص ذوي شرعية ما لم يُنتخب رئيس للجمهورية مطلوب منه داخلياً وخارجياً أن يستعيد تلك الشرعية التي فرّط بها سلفه لمصلحة حليفه “حزب إيران”. ويصادر هذا “الحزب” حالياً، باعتراف ضمني أو غير ضمني من أطراف “الخماسية”، كل الخطوات المطلوبة لإعادة لبنان الى “وضع طبيعي” لم يعد أحد قادراً على تحديد معالمه، بعدما أصبح سلاح “الحزب” يختزل الدولة والمؤسسات ويهيمن على الحدود ويدير معظم الاقتصاد الموازي.

لا بدّ لـ “الخماسية”، إذاً، من مراجعة طهران، وهو ما تولّاه وزير الدولة القطري للشؤون الخارجية، ويُفترض أن يظهر جوابها في تحرّك المبعوث الرئاسي الفرنسي. لكن طهران لا ترى في سلوك “حزبها” اللبناني ما ينبغي تصحيحه، وهي لن تنصحه بتقديم تنازلات باتت ضرورية فهذا ليس في عقيدتها. الأهم أنها منهمكة بشؤونها وبمفاوضات معقّدة مع واشنطن، وطالما أنها لم تحقق المكاسب التي تتوقّعها فمن المستبعد أن تبدي أي تراجع. أما “حزبها” الواقع في مأزق فيحاول اقناع حليفه العوني بأن القبول بسليمان فرنجية رئيساً يبقى أهون من الرضوخ لخيار جوزف عون.

النهار العربي