كتب المؤرخ السوري الراحل د. شاكر مصطفى (ت١٩٩٧م) بحثاً نشرته مجلة (شؤون عربية) الصادرة عن (الجامعة العربية) عام ١٩٨٧م عما وجده في كتاب صدر عام ١٩٦٩م حول مواضيع اهتمامات مراكز الأبحاث الصهيونية في ذلك الوقت..
كتب:
ذات يوم من صيف 1969 كنت في المكتبة الشرقية في بيروت أختار بعض الكتب الفرنسية حين وقع لي كتاب صغير من مائتي صفحة، اسمه “الإسلام والصليبيات” ، لمؤلف لم أسمع به بين العلماء، اسمه عمانويل سيفان، ووضعت الكتاب بين ما اخترته من الكتب، وسألني الكتبي، وهو يضع قائمة الحساب: هل أصر عليه؟ إنه غال؟ .. ووافقت ،فموضوعه ضمن اهتماماتي، لكني لم أتصور أن يكون الثمن في ذلك العهد أربعين ليرة لبنانية / أي مايساوي ربع راتب موظف حكومي في ذلك الوقت /، وأعترف أني صدمت، ولم أستطع التراجع، فكان أول ما فعلت ذلك اليوم أن أرى ما في هذا الكتاب.
وفوجئت فيه بعدد من الكشوف، لو دفعت ثمنها الآلاف لكان ذلك رخيصاً رخيصاً : أولها: أن الجماعات اليهودية التي تحتل فلسطين تدرك تشابه غزوها واحتلالها للبلاد مع الغزو والاحتلال الصليبييين، تدركه بوضوح وتعالجه جدياً في المنظور العلمي كتجربة رائدة..
وثانيها: أنها تدرس الموقف، وفي الشرق العربي الإسلامي، في جذوره، وتحلل عناصره لتتفادى نهاية كنهاية حطين وما بعد حطين ..
وثالثها: ولعل الأهم، أن ثمة فِرَق عمل كاملة في الجامعة العبرية، تتخصص في هذا الموضوع، وعلى رأسها جوزيف براور صاحب كتاب تاريخ المملكة اللاتينية في القدس (وهو في مجلدين بالعبرية نشر سنة 1963) وتستعين هذه الفرق بالعلماء المتصهينين في الجامعات الغربية لهذا الغرض، فلهم مراكز بحث ومستشارون في جامعة باريس لدى العالم اليهودي كلود كاهن، وفي الجامعات الأخرى الأمريكية أمثال: آشتور شتراوس، وبرونشفيك، وكيستر، وأيالون المختص بالعصر المملوكي، وغريتاين الذي كتب عشرات الأبحاث حول قدسية القدس والصليبيات واليهود والإسلام.
هذه النقلة من الغزو الصليبي إلى الغزو الصهيوني وبالعكس، يجد فيها اليهود الغارقون في التوراة، وفي الحق التاريخي، طقساً من طقوس العبادة، إنها عندهم نقلة بين التاريخ وبين المستقبل، وليست تهمهم الصليبيات بالطبع بوصفها صليبيات، وإنما تهمهم بوصفها رموزاً تاريخية، وبوصفها إسقاطاً على المستقبل.
زاوية اهتمامهم محصورة فيها في نقطة وحيدة: كيف تم طرد الصليبيين من هذه البقاع نفسها التي يحتلونها؟ ..
لهذا لا يهمهم بحثها الذي قتلها الغربيون بحثاً، ولكن تهمهم الرمال المتحركة تحت الغزاة في فلسطين وحول فلسطين، الاستيطان ووسائله في الأرض هي الهاجس المؤرق، إن جذور الحاضر موجودة في الماضي، وممدودة إلى المستقبل، دراساتهم كلها ها هنا محورها.
إنهم يدرسون معنى الجهاد، وكيف استيقظ في المشرق العربي، ومدى حيويته في الشام بالذات، وتأثير فكرة الجهاد قبل الصليبيات وأثناءها وبعدها، يحللون مدى قدسية القدس وعناصرها في نفوس المسلمين، وردود فعلهم ضد الاحتلال الغريب، يرون كيف تمت الهدنات، وتم التعايش الفرنجي- الإسلامي أولاً، وكيف انقلب ذلك حروباً وجهاداً من بعد، رغم تطاول الزمن، كيف تحول مفهوم الجهاد القديم فحل في مفاهيم جديدة ألهبت الناس يبحثون عن مرتكزات الدعاية التي حولته دينياً إلى عنصر كره للفرنج، وعن جذور الترابط في المنطقة من مصر إلى العراق، وعن أسباب توحدها في حطين وما بعدها، بل يحللون “نصر” عين جالوت ضد المغول، ويلحقون بالتحليل الفتاوى الشرعية، ويحللون أسباب سقوط عكا الأخير سنة 1291، وخروج آخر الصليبيين على آخر المراكب من المشرق، يبحثون عن أسباب ذلك وجذوره حتى في لاوعي الشعب نفسه.
ولاحظت أعمال الجماعة الصهيونية في الأسئلة التي تطرحها، فإذا بينها هذه الأسئلة:
1 ـ لماذا لم تستيقظ فكرة الجهاد في العصر الحمداني إلا على الثغور والحدود، رغم دعاية سيف الدولة ورغم خطب ابن نباتة وأشعار المتنبي؟
ولم استيقظت في العصر الصليبي في دمشق وحلب خاصة؟
2 ـ لماذا أخذ الجهاد الشكل الدفاعي السلبي والمحدود قبل الصليبيات؟ ثم أخذ الشكل الهجومي الواسع بعدها؟
3 ـ كيف أقيمت الصلة بين فكرة الجهاد وبين قدسية القدس مع إنها لم تكن موضوع جهاد قبل ولا موضوع قدسية.
3 ـ ماذا زادت الصليبيات من العناصر على قدسية القدس لدى المسلمين؟
4 ـ لماذا كانت معركة (ملازكرد) سنة 1071 نصراً إسلامياً نسيه الناس بسرعة، مع إنها كانت معركة حاسمة أسر فيها إمبراطور بيزنطة لأول مرة ولآخر مرة في التاريخ بيد سلطان السلاجقة ملك شاه، ولماذا لم تثر المعركة فكرة الجهاد لدى أهل الشام والعراق خاصة؟
5 ـ لماذا لم يذكر علماء الإسلام في القرن الثاني عشر فكرة، “طلب الشهادة”، بين دوافع الجهاد؟ ولم يذكروا القدس؟ إن أعمال 12 عالماً في ذلك العصر لم تذكر ذلك، لم يذكرها إلا عالم داعية هو عز الدين السلمي في العهد الأيوبي، والإمام النووي أيام بيبرس.
6 ـ ما موقف الشرع الإسلامي من الأموال الإسلامية التي تقع في يد الكفار؟ هل تبقى ملكاً للمسلم مهما طال العهد، أم هي غنائم للمتحاربين؟ المذهب الحنفي وحده يجعلها غنائم، لكن استعادة القوى الإسلامية لتلك الأموال تعيدها إلى أصحابها، ومع ذلك فإن زنكي رغم أنه حنفي المذهب أعاد أملاك معرة النعمان سنة 1136 إلى أصحابها، وابنه محمود وهو مثله في الحنفية أعاد أملاك أعزاز سنة 1150 لأصحابها، فما تفسير ذلك؟
1 ـ ما معنى ألا نجد لدى الشعراء الذين رثوا الدولة الحمدانية عند سقوطها أي ذكر للجهاد، ويذكر الكرم وحده؟
ولاحقت نصوص التراث الذي تتداولها المجموعة الصهيونية بالدراسة، فإذا التراث الذي نتصور أنه نائم في دمائنا وفي أدراجنا هو لديهم كيان كامل على المشرحة، يستنطقونه ويحكمون علينا من خلاله. يدرسون:
1 ـ خطب الجهاد منذ عهد الفتوح مروراً بالحمدانيين حتى العهد المملوكي.
2 ـ كل الكتب التي ألفت في الجهاد، أو كتبت عنه، ويتوقفون بخاصة عند كتب الجهاد التي ظهرت قبيل العصر الصليبي وخلاله ومن بعده، وبخاصة عند كتاب الجهاد الذي ألفه علي بن ظاهر السلمي النحوي (المتوفى حوالي سنة 498- 499هـ) والذي كان يدرّسه في دمشق في الجامع الأموي في 12 جزءاً إثر الاحتلال الصليبي للقدس مباشرة (وقد أخذوا صورة الكتاب من المكتبة الظاهرية ونشروا بعضه سنة 1966)، هذا الرجل كان أول من قال : إن الحركة الصليبية واحدة في الأندلس وصقلية والشام، قالها قبل ابن الأثير بمائة سنة .
ويدرسون كذلك كتاب أحكام الجهاد وفضائله لعز الدين السلمي، وكتاب الجهاد مجهول من العهد نفسه، وكتاب الجهاد الذي وضعه القاضي بهاء الدين بن شداد لصلاح الدين الأيوبي ضمن كتابه دلائل الأحكام، فكان كتاب المخدة عنده لا يفارقه، ويتساءلون لماذا لم يضع ابن شداد في هذا الكتاب كلمة واحدة عن القدس؟ ولا قال هو ولا أحد قبله: إن الجهاد من أركان الإسلام الأساسية إلا الخوارج وإلا علماء العصر المملوكي؟
3 ـ وبيّن ما يدرسه الصهيونيون من كل الكتب التي تتحدث في فضائل الشام والقدس ومقارنتها بمكة والمدينة، ويلاحظون أن الاسم في زيارة مكة هو الحج وفي القدس لا أكثر من زيارة، ويحللون في هذا السبيل خمسة وثلاثين كتاباً تتحدث في فضائل القدس والشام، ككتاب ابن الخوري (فضائل القدس الشريف)، وتقي الدين بن تيمية (قاعدة في زيارة القدس)، والكنجي الصوفي (فضائل بيت المقدس وفضل الصلاة فيها)، وشهاب الدين المقدسي (مثير الغرام في فضائل القدس والشام)، وأبي إسحاق إبراهيم المكناسي (فضائل بيت المقدس)، وعز الدين السلمي (ترغيب أهل الإسلام في سكنى الشام)، وابن المرجى (فضائل بيت المقدس والخليل)، وابن الفركاح إبراهيم الفزازي (باعث النفوس إلى زيارة القدس المحروس)، ومجير الدين العليمي (الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل) .
4 ـ وبيّن ما يدرسه الصهيونيون من دواوين الشعراء، يلاحقون حتى الصغار منهم، لا يهملون المتنبي والمعري، لكنهم يدرسون الغزي، وديوان ابن النبيه، وابن الساعاتي، وابن الخياط، وابن سناء الملك، والبوصيري، وابن عنين، والبهاء زهير، وعمارة اليمني، والملك الأمجد، وسبط ابن التعاويذي، وغيرهم وغيرهم ممن عاشوا الفترة الصليبية لعلهم يكتشفون آثارها في قوافيهم.
5 ـ ويدرسون مؤلفات العماد الأصفهاني، والقاضي الفاضل، والثعالبي، وابن جبير، ورسائل ضياء الدين ابن الأثير، وكتاب الإشارات للهروي، ورسائل ابن عبد الظاهر، وكتابات أسامة بن منقذ وخطب عبد الرحيم ابن نباتة.
6 ـ ويدرسون كتب الفقه والفتاوى، بخاصة التي أصدرها العلماء، كالإمام النووي،و كتاب المغني لموفق الدين بن قدامة.
7 ـ ويدرسون ويسألون حتى السير الشعبية، ويرونها منجم المشاعر العميقة للجموع المتتالية، يرون فيها المرآة الحقيقية، فهل فتح أحد منا قصة الأميرة ذات الهمة (سيرة المجاهدين وأبطال الموحدين)، أو سيرة عنترة، أو فتوح الشام للواقدي، أو فتوح الشام الأخرى للأزدي البصري، أو قصة علي نورالدين المصري مع مريم الزنارية، إنه سيرى فيها ما يكشفه الصهيونيون من المشاعر، إنهم يصلون حتى إلى تحليل النكات والنوادر، لماذا كل هذا العناء والجهد؟ ليس العلم وحده هو ما يقصدون، وإلا كانت لديهم آلاف المواضيع الأخرى الجديرة بالدراسة، إنهم يتحسسون في الصليبيات، ونهايتها وجعُهم، قلقُهم، مصير الغد
منقول عن/ علاء الدين سلانكلي
Be the first to write a comment.